المقالة

“البلاد” وموت التاريخ والمكان

كانت زيارتى لمنطقة “البلاد” اليوم مصادفة لم اتجهز لها، بل جاءت صدفة فى عرض عابر من أخى وهو يقود سيارته ونحن عائدان من أحد المشاوير بالمدينة، انا التى كنت قد قررت مسبقا بأن لا أذهب وأرى المكان، بعد أن شاهدت دماره فى شاشة التلفزيون وفى صور الأخبار، وفجأة وجدت نفسى داخل المنطقة التى عاشت فى أيامى و ذاكرتى على مدى العمر.

كلنا يعرف بأن منطقة “البلاد” دخلت فى حرب منذ اكتوبر 2014، وأختفت من حياة أهل المدينة بعد نزوح ساكنيها، وتوقفت الحياة والعمل فى مؤسساتها الحكومية وغابت فى حرب شرسة دارت فى شوارع وأسواق ومبان وبيوت المدينة القديمة.

“البلاد” هو الاسم الذى الذى يطلقه أهل بنغازى على المدينة القديمة، فمنطقة “البلاد” هى أساس بناء مدينة بنغازى التاريخية، وهى الشريان الرئيسى للمدينة وأساس وجودها حيث أسست بها المؤسسات الحكومية من مرافق وأعلام ومستشفيات ومصارف ومراكز ثقافية ومسرح بالإضافة إلى أنها تعتبر موطن ذاكرة المدينة التاريخية ورائحة الأهل والأجداد المؤسسين ومن أحد مبانيها “القصر الملكى سابقا” أعلن الملك ادريس السنوسي خطاب الاستقلال للمملكة الليبية.. فهى تحمل فى مبانيها الذاكرة السياسية والثقافية والإعلامية للوطن.

“البلاد” بالنسبة لى ليست فقط موطن ذكريات الطفولة مع والدى، خلال عمله بقسم التعليم بعمارة الخدمة العامة، ومرافقتى له احيانا فى طفولتى للتسوق فى سوق الجريد وسوق الحوت وميدان البلدية والتنزه معه فى حديقتها، ولمشاهدة المسرحيات التى كانت تعرض من حين لآخر، والتى كان والدى شغوفا بمتابعتها، وتطل من ذاكرتى مسرحية “العفريتة” التى لازالت ذاكرة مشاهدتها عالقة فى ذهنى كصورة من ذكريات الطفولة، ودهشة الطفلة بداخلى لعالم المسرح والصالة والجمهور، البلاد أيضاً هى نسيم الكورنيش وبحر جوليانة فى أشهر الصيف الغير منسية، فى أول تفتح طفولتى على البحر والمسرح والسينما رفقة والدى و أخوتى الذكور.

“البلاد” هى كل ذلك، وأكثر منذ بدأت اول خطوة لى فى العمل بعد تخرجى من جامعة قاريونس وأول خطواتى فى عمارة الاعلام فى عام 1994، ثم عملى فى دار الكتب الوطنية منذ يناير 1996.

“البلاد”هى تاريخ عشرين عام من العمل، فى أهم مرفقين من مرافقها الثقافية، هذا التاريخ هو الذى جعلها جزء من يومياتى، وذاكرتى فحفظت شوارعها، وأزقتها، ومحلاتها، ومطاعمها، ومصارفها، ومبانيها الحكومية، التأمين، والمرافق، والإعلام، والجوازات، والمعهد العالى للإدارة، وقصر المنار، وأكشاك الجرائد والمحلات، مكتباتها، الفضيل بوعمر، والتمور. ولو أن شوارع البلاد تتكلم لتحدثت عن تلك الفتاة التى كانت تشبك يدها بيد صديقتها الأثيرة، وهن يحثن الخطى نحو المصرف، أو وهن يتبادلن الحكايات والشجون على طاولة المطعم التركي.

“البلاد” هى.. ذاكرتى مع أمسيات الشعر والأدب فى قصر المنار، وفى قاعة الصادق النيهوم بدار الكتب الوطنية، وأحتفائياتها بشاعر الرهافة والإنسانية حسن السوسى وفتى بنغازى الراحل الصادق والنيهوم، وأمسيات بيت المدينة الثقافى.

”البلاد“ هى.. التأمل الصباحى أو المسائى على شط كورنيشها، العامر بضحكات صخب ولعب الاطفال، والمشى فى طرقاتها التى سمعت صوت خطواتى الصباحية وأنا أعبر أزقتها كل يوم من بيت أخى فى شارع درنة إلى مجلة المرأة فى شارع عبد المنعم رياض.

تتلاحق الذكريات التى وشمت فى الذاكرة، وأنا أحدق فى كل الدمار الذى رأيته اليوم بعد غياب ثلاث سنوات ونصف قتلت الحرب فيها كل المعالم التاريخية، والمؤسسات الحكومية، والبيوت والمنازل، وزرعت فيها الخراب والدمار المهول، نظرت مدهوشة مصعوقة من عدم عثورى على ”البلاد“، فلا وجود لشوارعها وأزقتها، ومبانيها ومحلاتها، أختفت المنطقة تماماً، هدمتها ألة الحرب العمياء، هدمها الإرهاب الذى تحصن فى مبانيها، وشوارعها وأزقتها، ولم يخلف الا الخراب والدمار. انهار كل شىء وتساوى بالأرض، تحولت منطقة “البلاد” إلى رماد، لم يتبقى منها الا عشرات المباني من البيوت التى حالفها الحظ فى البقاء وعدم الاندثار تحت وقع قصف الحرب.

وأنا أتجول بالسيارة التى حاولت الدخول إلى شوارعها، ولكنى لم أجد الا الحطام، ومع تحطم كل تلك المباني التى بنيت منذ قرابة 100عام، تحطمت كل الذكريات، قتلت ذكرياتنا، وصوت خطواتنا على شوارعها، وصوت حكاياتنا، وضحكاتنا، وأحلامنا التى حملناها فى ضلوعنا، ونحن نسقى أحلى أيام العمر فى رحاب أماكنها، دار الكتب الوطنية أضحت مبنى تعبث به رياح البحر، بعد أن سلبت كل ابوابها، ونوافذها، وتحطم جزء منها، شارع عمر بن العاص، أضحى ركام من المباني والمحلات، التى استلقت على الارض، فى موت حزين، موت ليس نبيل ولا جليل بل موت غادر غدر بكل ذكريات أهل المدينة، ماتت الشوارع، ماتت والمبانى والأزقة، التى أضحت غربان الخراب تحوم فيها، ويعلوها صمت المقبرة الحزينة، وتوقف هسيس أشجارها التى سقطت ميتة، وأنسحقت ورود ذكريات أهلها، والعاب الاطفال، ورائحة الأكل من مطابخها، تحت ركام أنقاضها، فيما بقى بحر كورنيشها شاهدا على ماحدث وماكان، كورنيشها الذى عادت طيور النورس تحوم فوقه، فيما يسبح الأطفال فى مياهه غير عابئين ببرودة طقس شهر مارس.

جلست على مصطبة كورنيش المدينة وأدرت ظهرى، للمنظر الحزين الذى أدمى قلبى ونظرت أمامى للبحر ومياهه الهادئة العميقة الغور، وكما لو أن بحر الشابي يدير ظهره هو أيضاً لمشهد الدمار الذى يقابله، ويغض بصره كى لايرى مشهد المباني المهدمة التى كانت تقف شامخة و عامرة بالعائلات والمحلات، والمطاعم، والفنادق أمامه، فيزدهى وينتشى فرحاً.

كورنيش المدينة حزين، كحزن أفواج الحاجين إليه كل يوم من أهل المدينة، للجلوس أمامه مديرين ظهرهم للمنظر الحزين المهيب للبنايات المتهدمة، فى لوحة سيريالية شبيهة بلوحة الغرنيكا، الكل يجلس امام الكورنيش مديرا ظهره للمنظر المأساوي الحزين، وثمة حزن يتشح بوجه كل العابرين، الذين يحاولون بمجيئهم للمكان، رؤية وتبيان حقيقة الكارثة بأعينهم بعد ان رأوها من خلال شاشات التلفزيون وصور الصحف، وليس كمن رأى كم سمع او رأى عبر واسطة الكترونية، رؤية العين المجردة تدمى القلب والعين والروح، فهنا فى هذا المكان تجسيد حقيقى لمعنى موت الذاكرة والتاريخ والزمان وأنمحاء 100 عام من تاريخ المدينة تماماً من وجودها، وذهابها فى طى النسيان، مع رياح حرب الإرهاب القاتل للبشر والحجر والتاريخ والذكريات. فهل ثمة أيادى وطنية حقيقية ستمتد للبلاد، وغيرها من المناطق التى دمرتها الحرب وتنتشلها من هوة الدمار الذى منيت به!

 

4 مارس 2018

مقالات ذات علاقة

قلق حارس المرمى لحظة ركلة الجزاء

محمد قصيبات

القفة.. “عيد كبيرة” بالخروف الوطني

حواء القمودي

الخيميائي الذي فخخته الكلاب

منصور أبوشناف

اترك تعليق