كنت كلما مررت على فندق قصر الجزيرة انقبض قلبي لحالة الإهمال المريع التي حلت به… فندق في وسط البلد أمامه البحر مباشرا يخبرنا شيئا عن فن الطليان في اختيار أماكن البناء فهم رغم قلة ما قدمه لنا احتلالهم من مزايا قياسا بما قدمه الاستعمار الإنجليزي والفرنسي مثلا إلا أننا ندين لهم بالبعض القليل ما تحتويه مدننا من جمال بعض المباني ومن بعض الغابات والأشجار التي ما زالت إلى الآن تظلل شوارعنا.
منذ أيام مررت من هناك وكم كانت سعادتي كبيرة عندما رأيت السياج الذي جرت عادة شركات البناء حديثا في وضعه حول الأرض المراد بناؤها أو حول المبنى المراد صيانته..تلف بهذا الفندق وكل المنطقة القديمة حوله.. ففي الآونة الأخيرة كثرت هذه السياجات في بنغازي والتي لو فعلا تم العمل داخلها بما يرضى الله فبنغازي التي أهملت وسرقت سنينا ستكون أخرى نضرة غير تلك التي نعرفها.
تستهويني دائماً الأماكن التي تستنشق روحي تحت سقفها عبق مرور الزمن عليها.. كل الأماكن القديمة التي زرتها.. كانت مخيلتي تسبقني لها.. في طرقات القرى الصغيرة المحاذية للمدن الكبيرة في أكثر من مكان في هذا العالم.. كان يبدو لي أني أسمع سير الخيول على طرقاتها..وأنا أسير عبر أزقتها.. أشجارها العتيقة التي استمرت عبر أجيال تمنح اللون الأخضر والظلال تجعلني أتمنى أن أقبل الأيادي التي رعتها.. شرفات بيوتها المزدانة بالأزهار.أضف إلى ذلك.النظافة.. المحافظة..الصيانة بمجرد ظهور أي عيب…. كلها تمنح الرونق لأي مكان و الذي هو في الختام ترجمان حقيقي لمدى حب أصحاب المكان.
دعوة سيدة عجوز لك لشرب القهوة معها في حديقتها وعلى أريكتها القديمة وثرثرتها الحميمة عن كل ركن في قريتها أو في بيتها وفخرها بأن هذا البيت عمره قرون وأن هذا الأثاث الذي يبهرك لمعانه توارثته أجيال.
وقولها لك إن كل ركن في هذا المكان يحمل قطعة من روحها وأنت تسمعها تصدق أنها لا تبالغ من تهدج صوتها و التماع عيونها أثناء حديثها الذي لا ينتهي عن تفاصيل مكانها..
لن تفاجأ إذا دخلت لأحد هذه البيوت هناك ووجدته في الداخل مهيأ حسب أحدث معايير الحداثة.. هذه المواءمة تجعلك تتمنى لو أنك تنقلها إلى بلادك التي تزخر بالقديم المهمل ومن كل هذا العبق الذي يحتاجه كيانك هناك سيتأكد لك أن حب المكان وحده لا يكفي وأن الجهد المبذول في المحافظة عليه هو الترجمان الحقيقي لهذا العشق..
تلك الحميمية التي تفيض من حديث عجوزنا الودود هذه..يلامس مشاعري شيء ما يشبهها عندما أكون في بيت ليبي قديم.. مازال يحتفظ برونق نكهته القديمة وتكاد ذاكرتي لا تحتفظ إلا بالقليل جدا منه لذا الألم يقرصني بقسوة وأنا أتجول في أي مدينة من مدننا القديمة المهملة..
وشواهدي على ذلك كثيرة طرابلس القديمة والتي رغم ما أنجز فيها على قلته يظل انجاز يحسب لمن اهتم بها إلا أن توقف العمل بها وعودتها لذات دائرة الإهمال كأغلب مدننا القديمة أمر لا يمكن تجاوز ألمه بسهولة.
فنحن نتخلى عن قديمنا بسرعة ونتركه لغول تراكم العيوب حتى لا يعود صالحا ومبدأ الصيانة الدورية والمحافظة عليه مع إضافة الجديد له غير وارد في أجندتنا مع مرتبة الشرف نفسد ممتلكاتنا بسهولة.. ونرميها قبل حتى انتهاء عمرها الافتراضي ونخسر بجدارة…. البيوت الجديدة هي الأغلى والأثاث الجديد مهما كان رخيصا هو الأجمل في نظرنا…
نهجر مدننا القديمة لأنها قديمة فنحن لا نحب أي قديم وتخلينا.. عن قديمنا جعلنا نفقد الخصوصية.. فالبيوت الليبية هي الآن خليط غير متجانس سواء في هندسة البناء من الخارج و في تنسيقه من الداخل أي قديم يجب التخلص منه..وقياسا على ذلك.. لا تربطنا علاقة حميمة مع ممتلكاتنا فنادقنا..حدائقنا..مطاعمنا.. سياراتنا.. لا نعرف كيف نحافظ عليها نفسدها ومن ثم نهجرها.. الموازين عندنا بالمقلوب.. وكأننا لا نعرف كيف نحب.
فيا ترى ما يحدث عندنا من صيانة الآن يعتبر صحوة؟؟ هل أخيرا تخلينا عن عاداتنا في هدم ما لا يروقنا ؟؟؟. وأن المحافظة على قديمنا في إطار جديدنا ظاهرة صحية وحضارية ؟؟ وأن الصيانة الدورية والمحافظة هي ما يطيل عمر ممتلكاتنا و بها نصون خصوصيتنا
بجد ما يجرى في شوارع مدننا الآن.. يجعلني أتمنى أننا فعلا بدأنا سياسة أخرى غير التي تعودنا وأنها ليست مرهونة ِ
بظرف معين.. سياسة ترى في الصيانة الدورية ضرورة حضارية نحتاجها نحن والآتي من الأجيال.. وأساسي أن نترك أماكننا لهم و كل ركن فيها يحكي لهم قصة حبنا الحقيقي له.. وأننا كنا جديرين به… وعليهم أن يكونوا كذلك.