عندما يتملكك بكل موضوعية هم ما، لا يمكن لك ان ترميه وراء ظهرك وتهرب للكتابة عن موضوع آخر، رغم وعيك بأن تكرار الحديث عنه قد يكون مملا، ولكن ما يحفزك للكتابة مجددا أن ما كتبته لم يترك أثرا، ومن جهة وأخرى كم الأخبار التي تجدد حضوره لا ترحم وجعك حتى أنك تتساءل مشككا بينك وبينك كيف يمكن لموضوع أن يسيطر عليك بكل هذا الثقل، ولا يعيره الآخرون أى إلتفاتة؟
اسمحوا لي أن أوجعكم بهمي هذا لعلى أتطهر من حمله وحدى، الذى كلما اجتاحني اليأس من خبر يخصه، أكابر بالكتابة عنه آملة أن يجد لديكم، وأولي الأمر منكم أكثر من مرور العابر ولكم استعراض هذه الأخبار التي أرغب أن تكون مفصلة ولكن أخاف أن يتسرب الملل إليكم من تفاصيل أقل ما يقال عنها أنها مزعجة.
منذ فترة إثر قرار يكتنفه الغموض تم هدم متحف بنغازى الذى لم يفتتح بعد على خلفية أن تحت بناء هذا المتحف آثاراً، وهو الأمر الذى تم نفيه من قبل باحثي آثار بنغازى ورئيس بعثة الدراسات الليبية بالملكية البريطانية للآثار، التى تعمل فى مدينة بنغازى منذ عشرين عاما، ولم تجد كل استغاثات هذا الانجليزى الموجوع “بول بينت” ومن معه فى حشد عطف المسئولين لدينا وهدم المتحف منذ سنة تقريبا، ولم نسمع حتى الان باكتشاف آثار تحته والتى إن وجدت حقا لهان علينا الأمر.
خبرآخربعده بأشهر قليلة: شاب من مدينة قورينا يدعو لهدم آثارها، لأن هذه الآثار تحتل مساحة كبيرة فى مركز المدينة والشباب هناك لا يجدون أرضا يقيمون عليها مساكنهم، وقتذاك خضت مع هذا الشاب ما يشبه الحرب على موقع السليفوم الالكترونى، هالنى أن يتحول هذا الكنز فى نظره الى أكوام من الأحجار لا معنى لها، بناها كفرة حسب قوله لا يمكن لها أن تقدم لنا شيئاً، وما فاجأنى أكثر هو التعليقات على المقال، صحيح أن أغلبها كان معى، ولكن عدد من كانوا أيضا مع هذا الشاب لم يكن قليلاً، منهم من كتب لى يتهمني بأنني أهتم بالآثار وأغض الطرف عن أزمة السكن التى يعاني منها سكان هذه المدينة فى مزايدة لا يقبل بها أى منطق، فأنا لا يمكن لى أن اتغاضى عن أزمة السكن هناك ولكن آثارنا موضوع، وأزمة السكن موضوع آخرمختلف تماماً، فالحمد لله أرضنا تتسع للإثنين معا، لو – ولو هذه لا أعلم هل صحيح تدخل عمل الشيطان أم أنها فى هذا المجال بالذات تعمل عمل الملائكة؟ – سكان هذه المدينة أيضا منزعجون من أيادى الدولة التى وضعت على أغلب الأراضى فيها دون أن تقيم المشاريع التى توفر فرص عمل لشباب تلك المدينة، وتركت البطالة تلتهم سنوات عمرهم، هؤلاء الشباب هم من استبشر ونحن معهم بما يعرف ببيان قورينا الذى وقعه السيد سيف الاسلام مع اليونسكو منذ عامين، وعلى ما يبدو أننا لن نر تجلياته واقعا على خلفية عدم الثبات التى تشهدها ساحتنا السياسية، والذى ينعكس بالتأكيد على خططها وبرامجها التنموية مع كل الألم لعدم استنئناف العمل فى هذا المشروع وغيره من المشاريع سواء كانت هذه المشاريع تقيمها الدولة أو القطاع الخاص، فالقطاعان فى حالة تجاهل قديمة لإمكانات هذه المنطقة فى معادلة عجزت عن فكها.
أثناء تجوالنا مع ضيوف مهرجان المسرح الحادي عشر العرب الذي أقيم هناك، قالت دهشتهم، ما أقوله: سهير المرشدى صلت ركعتين لجمالها، وجوليت عواد طلبت منا دقيقة صمت في محرابها. ونحن بقدر فخرنا كان خجلنا من الرد على أسئلة تستغرب إهمالنا، وعدم تجلي جهدنا البشرى بها، فلا فنادق ولا منتجعات ولا متاحف ولا عناية واضحة بالآثار ولا دعاية تشتغل على تسويق هذا الجمال، أجوبتنا بصراحة كانت مخاتلة بدل أن تريحهم زادت من أسئلتهم، ومن ألمنا.
أسئلتهم لم تكن جديدة عليّ، طالما كانت تدور في ذهني وان كتمتها في حضرتهم حتى لا أزيد الطين بلة، وانتهزت فرصة وجود كاتب مخضرم وسألته وحده: كيف تتركون مدينتكم لهذا الإهمال المعاصر يشوه جمالها التليد والفريد طيلة كل هذه السنوات وأنتم تملكون أراضى شاسعة بها وزرع لكم التاريخ فيها سنابل من ذهب ونحت العابرون على ثراها أيقونات من حجر ورخام؟ أخبروني يا جلساء الجمال العريق الذي شاخ على مرأى من زمانكم العليل وحكمتكم الخائرة لا تحفل بغير الشكوى فوق تلال الهمس.
خبر آخر سأمر عليه سريعا، وهو الآثار التى وجدت فى منطقة طابلينو بمدينة بنغازى منذ اسبوعين تقريبا تناولته فى مقال سابق وأبديت انزعاجي من اكتفاء الجهات المعنية بتسجيله ثم ردمه واستئناف البناء فى ذات المكان وكأن شيئا لم يكن.
خبر آخر آمل أن يكون الأخير وهو ما حدث لآثار جبال أكاكوس الأيام الماضية جراء غضب أحد المواطنين بسبب طرده من شركة سياحية كان يعمل بها، فصب جام غضبه بطلاء عدد كبير من اللوحات الجدارية فى كهوف تلك الجبال باللون الأسود الذى يعنى فى المحصلة اعدامها نهائيا فى جريمة نكراء لا تتطلب التهاون أبدا.
كل هذا الذى يحدث ألا يكفى لأن يكون بيانا واضحا على فوضى أنتجتها عشوائية خلطت الحابل بالنابل فى بانوراما أقل ما يقال عنها أننا دولة وأفراد لا نقدر منح هذا الوطن ولم نعرف حتى الآن صيغة وآلية تحترمه؟ أفراد يرون فيما تركه لنا الأجداد مجرد حجارة يمكن لنا إنهاء عمرها بالهدم أو الفناء، ودولة توكل مهام هذا الكنز لجهات دون أن تسلحها بإمكانات تحافظ وتصون وتستفيد من كل هذه الكنوز الممتدة على أرضنا الفسيحة.
هذا الإهمال المريع وتداعياته المفزعة، ألا يدعو مؤسسات البلد لإعلان استنفارها والتعاطي بجدية مدورسة مع هذه الأجندة بنهج غير الذى إعتادته طيلة السنوات الماضية؟ البطالة التى يعانى منها سكان تلك المدن الاثرية ألا يمكن حلها بمشاريع سياحية توفر فرص عمل، وتضيف للدخل القومي؟
يا مؤسسات البلد بقطاعيه العام والخاص، لو عامودين فقط من أعمدة شحات الأثرية لوحدهما كانتا في أي بلد آخر غير بلدنا، لرأينا حولهما كل ما من شأنه أن يعزز قناعتنا بإمكانية الجهد الإنساني المنظم كيف يمكن له أن يتحقق ومن ثم يقدم.