عزيز باكوش | المغرب
بعد نزولي سلم مترو الأنفاق وبمحطة جان طالون – المغرب الصغير- Petit-maghrebكما يلقبونه بسبب وجود جالية مغاربية وعربية قوية. بدأت على الفور في التحقق من الوجهة المطلوبة. ورغم أن مترو أنفاق مونتريال هو ثاني أكثر أنظمة النقل السريع ازدحاما في كندا ورابع أنظمة النقل السريع ازدحاما في أمريكا الشمالية. وذلك بعد مترو أنفاق مدينة نيويورك ومترو أنفاق تورنتو إذ بلغت حمولة خطوطه الخمس الأكثر شهرة ملايين المسافرين الوافدين على مدار الوقت. فقد بدت الخطوط والاتجاهات ملونة زاهية بألوان الطيف واضحة بشكل لافت للنظر. تمكن الباحث من تحديد لون وجهته باتباع خط الوصول من الجهتين بكامل السهولة ودون كبير عناء توجهت رأسا إلى أول مقعد شاغر بالمقطورة التي بدت في كامل الإنارة والهدوء وككل الركاب المهووسين بالشاشات. فتحت لوحة هاتفي وشرعت أُدَون خاطرتي المارقة التي نزلت على بالمظلة قبل ثوان. كان الميترو كثير الاهتزاز بسبب عجلاته المطاطية المصممة لهضم المسافات، إلا أنه مريح وصارم. وبين الفينة والأخرى، نسمع صوت الخدمة نقيا صافيا ورشيقا ينبه إلى ضرورة الحيطة والانتباه. لأن المحطة القادمة نقطة التمفصل بين الخطوط والوجهات. فيما لوحة الكتابة على هاتفي مسيطر عليها على نحو لا يسمح بالتفريق بين الفاء والقاف.
كانت لوحة الكتابة في وضع أفقي. وظهرت حروف الضاد بارزة لافتة للنظر حين سألتني سيدة في السبعينيات وعيناها مسمرتان صوب لوحة الحروف ” من أي بلد أنت؟” هكذا وبدون مقدمات. وبدا لي لحظتئذ أن منسوب الفضول وحب الاستطلاع لديها مرتفع جدا. ما شجعها على معرفة نوعية لغة التدوين من خلال هوية كاتبها. كنت أكتب بالعربية وبخفة وتلقائية. وأكاد أجزم أنني الشخص الوحيد في مونتريال في تلك الرحلة الذي كان يرسم بالعربية. وتذكرت الشاعر المغربي عزيز فهمي الذي يكتب جل قصائده بالميترو. كانت سيدة في السبعينيات، لكن الشيخوخة لم تقوس ظهرها. وكان شعرها الطويل المكسو بقبعة شرقية باذخ يشبه البياض تماما. ومعطفها التقليدي الكاكي وعنقها الملفوف بطبقة فرو يجعلها مثل عارضة أزياء شابة من العمر الثالث. أما لكنتها فكانت كيبيكية محضة، تمزج بين الفرنسية والإنجليزية مع توابل محلية مثل تمطيط الكلام أو تحويل حرف الدال إلى حوف الزاي وتمديده مثلا.
وكما لو تدفق شلال من المعلومات داخلي، شرعت أحكي بوطنية جارفة صفحات مشرقة من تاريخ المغرب الرسمي من عهد مولاي إدريس إلى الملك محمد السادس. حتى أنني نسيت محطة ميترو “بيري أوكام “التي تفصلني عنها ست محطات قادمة، وكنت قررت أن أتخذها منطلقا لموعد محدد سلفا. كانت تنصت إلى باهتمام بالغ مبدية أكبر قدر من البراءة. ثم ما لبث أن أجابت بلكنة الكيبيك نصفها فرنسي والنصف الآخر إنجليزي مع توابل أهل الكيبيك الطيبين وقد حركت رأسها في الاتجاهين ورفعت حاجبيها “لم يسبق لي أن زرته “وسرعان ما تلقفت ردها وأردفت موضحا على الفور إنه في شمال إفريقيا.. هل تعرفين دول شمال أفريقيا؟ في هذه اللحظة، أعلنت الخدمة الآلية وصول الميترو إلى المحطة ما قبل الأخيرة. وفيما يشبه الغنيمة، وتخليد هذا الأثر العابر، طلبت منها التقاط صورة تجمعنا فلم تمانع. وبدا واضحا أن الوقت سوف لن يسمح بتمديد هذا المشروع التواصلي الاجتماعي.
فقلت بمزاج صاف مستدركا ” سيدتي.. ماهي الطريقة التي يمكنني بواسطتها تمكينك من الصورة …الواتساب مثل؟ ردت بسرعة لا …لا أستعمل الواتساب. لكنها فكرت لثوان ثم اهتدت إلى الطريقة التي تفضلها وقالت بلكنة تستحق المضغ وأصبعها أمام شفتيها “الميسينجر ” ثم شرعت على الفور تملي على رمز استخدامها على الميسينجر. وبدا لي الإسم مركبا ويحيل على أوروبا الشرقية. كتبت الاسم بالحروف المملاة علي. في هذه الأثناء دق الجرس معلنا الوصول إلى المحطة. لم يسمح لنا ذلك سوى بحركة أيدي خفيفة وابتسامة في منتهى الصدق والإنسانية. وحين وصلت البيت. كتبت إسم المستعمل كما أملته على السيدة النبيلة. فاستعرض محرك البحث أكثر من مئة اقتراح يحمل نفس الإسم بنفس الحروف. جزء يحمل صورا وملامح استعراضية. والجزء الآخر بلا ملامح. ليضل البحث عن سيدة عابرة في الذاكرة مجرد سراب معلق على حافة النسيان.