حكايات مسـافر
يسري عبدالعزيز
عندما تدق ساعة الجوع لا طعام سيئ / مثل ياباني
“عبي البطينة تستحي العوينة”… هذا المثل الشعبي الليبي نتداوله كثيرا في أحاديثنا، خلاصة معناه بالفصحى : “أملئ البطن لتستحي العين” وجميعنا يعرف أن البطن لا يملؤها إلا الطعام… وأن الأطعمة تختلف… وأن طهي تلك الأطعمة فن…. وأن الأكل هو عملية تذوق لهذا الفن… مع ملاحظة ان ما يعجبك من طعام قد لا يعجب غيرك فأذواق الناس في الأكل تختلف من شخص لآخر…. ومن مجتمع لأخر.
في ثمانينيات القرن الماضي ترافقت وصديق عزيز في رحلة لليونان وتركيا… طوال أيام بقائنا في أثينا كان صديقي يرفض أن يأكل أي طعام لم يعرف مثيل له في الواحة التي أتى منها وكان يكتفي بسندويتشات التن وقطع من البسكويت ولم يتخلص من هذه المشكلة إلا بعد وصولنا لإسطنبول حيث وجدنا مطعما يقدم “طبيخة البامية” التي يعشقها فأصبحت هي وجبة غداءه وعشاءه واضطررت أنا أن أتناول وجبتي غدائي وعشاءي معه بنفس المطعم ووفق قائمة الطعام المتوفر لديه حتى مغادرتنا لتركيا.
تكلفة تناولك لوجبة ما لا علاقة له بجودتها… ففكرة أن الأشياء الأغلى ثمنا هي الأفضل ليست صحيحة في عالم الطعام… فأفضل شربة خضروات تناولتها كانت في مطعم من مطاعم اخدم نفسك بنفسك (Self-Services) بمحطة القطارات الرئيسية بمدينة روما وكانت اسعاره رخيصة مقارنة بأسعار المطاعم الأخرى ولكن ذلك لم يحول عن تقديمه لشربة خضروات حسنة الإعداد والنكهة.
في روما أيضا وخلال إحدى رحلاتي لها أقمت في منزل صديق كانت تشرف على نظافته واعداد الطعام به سيدة من اريتريا وعندما سألتني عما أرغب في تناوله في وجبة غداء يومي الأول بالبيت سألتها عن أكثر الأكلات شعبية في بلدها فأخبرتني عن “الزقني” Zigni وهي وجبة تتكون من قطع صغيرة من اللحم البقري مطهية في صوص به أنواع مختلفة من البهارات ويمكن تناولها مع الأرز الأبيض فطلبت منها أن تعدها لي ومن فرط اعجابي بها طلبت منها أن تعيد طهيها لغدائي في اليوم التالي.
وجبة أخرى اعجبتني كثيرا وقد تناولتها للمرة الأولى صحبة أصدقاء سويسريين في مطعم تقليدي بمدينة لوزان ويسمونها فوندو (Fondue) وهي قطع من الجبن توضع في وعاء فخاري يوضع بدوره فوق موقد نار صغير موضوع بدوره أمامنا على الطاولة حتى تنصهر قطع الجبن بالحرارة المنبعثة من ناره وتصبح سائلة ثم تستخدم شوكة طويلة خاصة لتناول الوجبة فتغرس قطعة من الخبز في اسنان الشوكة ثم يتم تغميسها في هذا “الفوندو” ومن ثم تناولها ورغم أنها تتكون من الجبن فقط إلا أنها كانت لذيذة وقد كررت تناولها في مطاعم سويسرية أخري خلال سفرياتي.
المطبخ الايطالي هو أفضل المطابخ على مستوي العالم في المعجنات بكافة انواعها وطرق طهيها المختلفة… سباقيتي بولونيزي… سباقيتي كاربونارا… باستا بومودورو… لازانيا… كانيلوني… والقائمة بالأطباق الإيطالية الشهيرة تطول.
الكثير منا يفضلون المكرونة (Pasta) بأنواعها المختلفة كوجبات رئيسية وجميعها تعود في الأصل للمطبخ الإيطالي الذي عرف بالبساطة في مكونات وصفاته الغذائية واعتماده بشكل كبير في أطباقه على الخضروات والباستا… ومن مأكولاته الشهيرة أيضا شربة المينيستروني الرائعة وخبز الفوكاشيا الحاذق المعجون بالثوم وفطائر البيتزا المتنوعة التي أصبحت من أشهر وجبات المأكولات السريعة في كل أركان الكرة الأرضية لسهولة تحضيرها وقلة تكلفتها وتنوع مكوناتها وفق الطلب وقبل كل ذلك، للذة طعمها.
المطبخ الهندي يتميز بتنوع أطباقه وكثرة التوابل التي تميزه بروائح زكية ونكهات مميزة عن الأطعمة الأخرى… كما يستعمل أهل الهند في مأكولاتهم ورق الكاري الذي يتمتع بمذاق حار ويعد الأرز من مكونات اطباقهم الرئيسية حيث يتم تناوله مع كاري الدجاج وتندوري الدجاج.
تاريخيا تركت تجارة التوابل القادمة من الهند والمستخدمة في المطبخ الهندي أثرها على المأكولات الأخرى في جميع أنحاء العالم بما في ذلك مأكولاتنا الشعبية الليبية وذلك بالإضافات التي تضاف للطعام عند طهيه لتمنح نكهاتها المميزة للأطعمة مثل الفلفل الاسود والهيل(الحبهان) والقرفة والكركم (البزار) والبهارات الحارة والحبوب مثل الكمون والكمون الأسود والكزبرة (الكسبر) .
إذا كان هناك شعب في العالم يعشق شرائح اللحم البقري فهو الشعب الأرجنتيني الذي تعتبر بلده من أكبر مصدري لحوم الأبقار… فأبناؤه يلتهمون كميات كبيرة منه بانتظام… إذا ما دخلت مطعم أرجنتيني في مدينة ما من العالم فيمكنك أن تطلب طبق الستيك الأرجنتيني الشهير الجيد الشوي (Well-done Steak) وشخصيا أفضله مصحوبا بصلصة الفلفل الأسود التي تمنحه نكهة حارة بعض الشيء تزيد من لذته.
المطبخ التركي هو الأقرب لذوقنا كليبين بتنوع أكلاته (طبايخ وطواجين ومحاشي) وبمشوياته ومقبلاته المماثلة للمطبخ اللبناني…الشاورما… الكباب… الكفتة… اللبنة… الطحينة…الخ.
في عالم الوجبات السريعة… أفضل هامبورقر أكلتها في حياتي كانت من عربة بائع متجول في أحد ميادين العاصمة الفنلندية هلسنكي وكانت تتكون من شريحة اللحم البقري المفروم المعهودة مع شرائح من البصل المحمر وكانت لذيذة بدرجة لم أستطع معها نسيانها… ولا أنسى أيضا وجبة الأرز التي كنت أشتريها من محل صيني للمأكولات السريعة في مدينة توركي بجنوب بريطانيا… وهي وجبة مكونة من الأرز الأبيض وبه قطع صغيرة من لحم الدجاج وحبوب البازيلاء ونتف من البيض وتسمى (Chicken Fried Rice) ويعلم الله كم كانت رائعة.
أحلى قطعة باسطي أكلتها كانت في محل صغير للحلويات بميدان أمونيا بأثينا…وأحلى كوب عصير شربته كان كوبا من عصير الليمون الطبيعي (ليمونادة) وكان ذلك رفقة بعض الأصدقاء في مقهى على ضفة نهر بردى أسفل حي المهاجرين بدمشق.
أكثر السلاطات تفضيلا عندي هي السلاطة اليونانية (Greek Salad) المكونة من شرائح الطماطم والخيار والبصل الأحمر والفلفل الحلو مع حبات من الزيتون الأسود ومكعبات من الجبن الأبيض (Feta) المدعومة بزيت الزيتون والخل مع التوم المهروس…. ويليها في قائمة تفضيلي سلاطة المايونيز الروسية والسلاطة المشوية التونسية و (Salade Niçoise) سلاطة نيسواز التي تنسب لمدينة نيس الفرنسية.
أحلى “محلبية” أكلتها كانت في أحد المحلات المتخصصة في إعدادها بنكهات مختلفة في إسطنبول.
الوجبة الوحيدة التي لم استسيغها في رحلاتي هي وجبة صينية تتكون من أرز مع سمك مطهو في الصوص الحلو والحامض في وقت واحد…. وقد كدت أن اخرج ما في معدتي بعدما تناولت ملعقة واحدة منها فلم أستطع أن اغامر بأكل ملعقة ثانية منها واكتفيت بأكل طبق الأرز الأبيض دون أن اضيف له ذلك الصوص.
من مطبخنا الليبي…. أفضل الأكلات التي تؤكل بالملاعق لدي هما رشتة البورمة والمبكبكة وإن كنت لا أستطيع التغاضي عن الكسكسي… رغم أنني قد أكلت الكسكسي أيضا في تونس والجزائر والمغرب إلا أن الكسكسي الليبي يبقى هو الأفضل مذاقا.
المأكولات الليبية التي تؤكل مصحوبة بالخبز أفضلها عندي “طبيخة الفاصوليا” والطواجين بأنواعها…ويبقي أفضل اللحوم لذة عندي هو “بورديم ” لحم الخروف الجيد الطهي “المهبز” الذي يكاد يذوب في الفم… يليه لحم الخروف الذي يقدم مع الأرز الأبيض في مناطقنا الشرقية.
من مطاعمنا المحلية لا أنسى “سكالوب” اللحم البقري الذي كان يقدمه مطعم “سلطان المشويات” بشارع باندونج بطرابلس في السبعينيات… ولا كباب مطعم راس حسن في سنواته الأولى… ولا المائدة اللبنانية الفاخرة بكل مقبلاتها ومشوياتها بمطعم البدوي بشارع البلدية… ولا سندويتشات شاورما اللحم التي كان يعدها محل علاء الدين بمنطقة السياحية قبل أن يقفل أبوابه بعدما ساءت خدماته… ولا الوجبات الشعبية المختلفة لمطعم البرعي بالمدينة القديمة… ولا أنسى أيضا نكهة البهارات التي تميز وجبات الفاصوليا التي يعدها محمد الربع (حميدة فاصوليا) وينفرد بها في بنغازي عن كل فاصوليا يمكن أن تأكلها في مكان آخر من ليبيا.
وبعد كل ذلك تبقى الوجبة التي لم ولن انساها هي سندويتش كباب أكلته في إحدى قرى غينيا ولم أعلم بنوع اللحم الذي اعدت منه إلا بعد أن انهيت أكله… كان اللحم لحم خفافيش… ورغم أنني شعرت بنوع من الغثيان البسيط بعد أن علمت ذلك، ولكنه صراحة كان مقبول ومستساغ .
وأعود وأقول ان اعداد الطعام هو وقبل كل شيء فن يحتاج إلى فنان يتقنه مثلما يتقن الرسام المبدع رسم لوحته.