قصة

ليلة تنفيذ الحكم

من أعمال التشكيلية الليبية .. خلود الزوي
من أعمال التشكيلية الليبية .. خلود الزوي

في ظلمة باردة ، إلا من بصيص صغير يخرج من شق حائط متصدع ؛ حيث يرقد المحكوم ، آثار حياة توزعت حوله ، لف رأسه بلفافة تشبه الأفعى ..تحسس جسده النحيل ، توزعت حوله بقايا طعام وسجائر مكسرة ، تلك التفاحة لم يكتمل قضمها ؛ حمراء ناضجة تضج رائحتها في أركان المكان الخاوي الميت ، سترته الحمراء تعكس وميض تفاحة مازالت تشتهيها نفسه لكنه حكم القاضي الذي ملأ الأركان وسقط كالصاعقة على نفوس الجميع ، غير متوقع (بالإعدام شنقا حتى الموت ..) كلمة حتى الموت ارتدت فستانا برونزيا وأشبهت زنجية تزم شفتيتها المتورمتين، كأنها تمتص رحيق الحياة من عروقه وتحيله إلى جثة خالية من النضارة ..

السجن الضيق والوحدة الانفرادية ؛ الثوب الأحمر والتفاحة الحمراء ؛ السجائر المبعثرة وفراش الموت الذي يشبه التراب تماما ؛ عتبة قبر تتراءى له قبل بتره من الحياة . رأى كل شيء أمامه في تلك الحجرة المظلمة : وأحاطته الذكريات المؤلمة قبل المفرحة ، كانت في لحظتها لحظات فرح عنده لكنها عند آخرين ما هي إلا آلام محضة .

لم يتبادر إلى ذهنه سوى تلك المرأة التي ضاجعها ، وانطلق هاربا حينما أخبرته أنها تحتفظ في أحشائها بشيء من بقايا رغبته الجامحة ..

إلا أنه عزم على الزواج من إحدى الجميلات التي صده عنها ابن عمها ، فردّة الفعل تلك تركت في نفسه ندوبا استشعر معها ذنب تلك المرأة .

صراخها حينما ارتفع مرددة دعوات مخلوطة بالدموع وبسوائل كثيرة على وجهها ، صورة ارتسمت في خلفية حياته المليئة بالمغامرات السوداء …الطفل الذي سرقه ليبيعه للمافيا ، والبنك الذي استولى عليه…والاحتيال نصبا صار البطاقة الشخصية وجواز المرور لكل ما يقع في نفسه من رغبة وجموح .

قال في نفسه : كنت كالحصان الشارد الهائج ، لا ألوي على شيء !

هاهي الآن الموت أمامي …ولاشيء غيرها ..

ترايْ : هل أستطيع الاحتيال على حبل المشنقة ، في الوقت الذي عجز فيه جمْعُ المحامين من كل أصقاع الأرض ، حتى أموالي التي جمعتها بكل الطرق غير المشروعة صرفت على أن يحتالوا على الحكم ، لكي أفوز بشيء من حياة !!

قال تلك الكلمة وتحسس يديه مررها على صدره ، عبرة تخنقه ترهقه تشده تكبحه؛ وهو يصارع الدموع في عينيه : بشيء من حياة ..فما عدتُ إنسانا كاملا ..جسدا امتلأ بالأمراض …وصدرا تقطعت أنياطه ، وطفولة مليئة بالعذاب …

انكبّ على وجهه باكيا وحاصره الضعف الذي تهرب منه طيلة سنوات عجاف ..لقد انهار حينما تذكر طفولته ، بكى وازداد بكاؤه ، لكنه لم ينم : أعاد على نفسه كيف كانت طفولته ..تلك الحياة الفريدة التي تمتلك نسخا من سير ذاتية تؤهلك أن تكون أو لاتكون …

طفولته بدأت بترك المدرسة والانخراط في سوق الحياة ، يبيع ويشتري ، تذكر والده حينما قال له : بع كل شيء لتصبح تاجرا مرموقا ، ضحك الصبي ليسأله : حتى أمي رد أبوه مفتخرا وهو يفتل شنباته : حتى أمك ..

قهقه وقهقه الجميع …

بع كل شيء حتى وطنك

لاتلوي على شيء ..المال وحده هو من يجعلك إنسانا

العظماء الذين تراهم في الشاشات وتملأ وجوههم الكبيرة الصحف : باعوا كل شيء

لكنهم ليسوا عظماء !

عظماء في عيون من يحسبون القرش الأحمر على الأبيض على الأسود.

هذا رجل فقير هل نعطيه دينارا

هل جننت يا ولد ؟ لو أشفقنا على كل الفقراء : سنصبح تعساء وسيضحكون علينا…

الحياة أمامهم لم لا يجدُّون مثلنا !

صديقي أخبرني أن الامتحانات الأسبوع المقبل !

دعك من هذا الهراء : أنت الآن تاجر كبير كبير وسأرسلك الأسبوع القادم للحاج ” أبو سرور ” هو من سيدخل السرور عليك وعلى مستقبلك لتصبح “شاه بندر” التجار وكبيرهم !!

ربت على ظهره النحيف بينما سرت في نفس الطفل رغبة قوية في أن يصبح تلك الصورة دفعة واحدة .

التهم كل شيء ، تاجر في وطنه ، في داره ، أخرج أمه وأخواته البائسات بعد موت والده من ذلك البيت الممتد ليصبح تاجر الأفيون الذي استلب قلوب العاشقين من الرجال .

لم يستجب لدعاء أمه التي أخبرته أن الحياة ليست غابة

بينما أصر أن يحولها إلى غابة ، هو أسدُها والكل من حوله حيواناته الأليفة التي يستمتع بلحومها وقتما شاء .

ظل وجهه واجما وهو يتذكر تلك السلسلة كأنه بنفسه يتفرج على أحد المسلسلات التي تتحدث دائما – أن البطل هو مهرب المخدرات وفي الحلقة الأخيرة يتم القبض عليه ثم يفر من السجن ليلتقي عشيقته ويقبلها خلف أسوار السجن في قبلة طويلة يذوبا من خلالها ، مصحوبة بالجوقة الموسيقية لتنهي الحلقة .!!!

ابتسم وهو يتذكر ذلك المشهد : فقد مثله على مسرح الحقيقة ، سُجن ذات مرة وهرب من السجن ؛ّ كانت بانتظاره المرأة التي أذابت قلبها حبا له ،التقى بها خلف أسوار السجن ،قبّلها بعنف وعمق واختلى بها في بيتها الذي اختبأ فيه حتى تقييد القضية ضد مجهول .

لكن النتيجة : جنين ينكره ويستنكره ويفر هاربا ليكمل مشروع التجارة في كل شيء …

مازال صوت الحكم يملأ أرجاء المكان : الإعدام شنقا حتى الموت ..

وضع يداه على رقبته ، تحسسها ، شعر بنبضه المتضارب الضعيف ، تنفس ببطء ، بعمق ، جلس ، وعاد ليمتد ، تخيل الحبل تساءلت مخيلته:من سيلف الحبل على رقبته ؟ رآه رجلا غليظ القلب شديدا فظا ، جحظت عيناه ، وظهر نابه ليضغط على شفتيه ، يتلمظ بلسانه في جوانب شدقيه الممتلئتين ، رآه وهو يشده بقوة ويتأكد من شدته ، أحسه حبل ٌ متين كله أشواك خشن الملمس ، التف عليه كأنه يعانقه بقوة ، كعناق والده في تلك الليلة له حينما أرسله إلى “أبي السرور” ، كان عناقا حارا خاليا من تلطيف الدموع؛ مباركا بالدعوات التي آلت به إلى هذا الحبل المكروه

سمعهم يتهامسون : أخبره ماذا يريد ؟

نظر نحو التفاحة التي لم يكتمل جزءها من الانقراض ؛ سال لعابه ، اشتهاها ، أراد أن يقول: شيئا منها لأروي عطشي وظمئي للحياة ، لكي أطفئ آلام من تسببتُ لهم في الإيذاء ، لكي أبيعها إلى جسدي لعله يشعرني أنني إنسان كنت ذات يوم بلا إنسانية ، بلا حرارة قلب ، وبلا قلب

نعم : بلا قلب !!

كنتُ شرِها ، أحب كل شيء ، ولاأريد من يقاسمني هذا الشيء.

جلس ليتحسس ظهره الذي تخشب كعصا …

لكنني لم أقتله ! لقد قتل نفسه ..نعم أنا هددته- وحسب- لإخافته …لقد استحوذ على طريق تجارتي المهربة .

تذكر الحوار الدائر بينهما .وعندما خرج سمع إطلاق نار ثم أشيع أنه قام بقتله .

تذكر أنه لم يصطحب سلاحه معه تلك الليلة ..حتى حرسه الخاص به لم يكن معه ليلتها ، كيف- إذن- قُتِل ؟

صحيح أنني اعتديتُ عليه بالضرب والركل ، كان يتجنب ضربي ، كأنه لايريد معاداتي حقيقة …فهو دائما يتفادى الاصطدام بي ..إنه تاجر مثلي ،لكن حالته كانت أفضل من حالتي ، إنه يشعر بإنسانيته ، وبإنسانية من حوله ، لديه طموح لكنه ليس بشراهتي وإسرافي- إذن -لماذا حُكم علي ّ بالإعدام وأنا لم أقتل أحدا !

سمع صوتا يتردد في أذنه : لقد قتلت جنينك وأنكرته !! تنكرت لأهلك واستفززتهم بمالك ورِجلك …

قتلت الكثير من الشباب حينما تاجرت في ذلك الأفيون الأبيض الذي استلب عقولهم ، هم ليسوا أحياء ..هم أموات بعضهم الآن يعاني أمراضا خطيرة ..وآخرون تحت رحمة الأجهزة الطبية ..أما البقية تائهون بين الشوارع والمدن !

أنت شيطان

أنت شيطان

وقف ذعرا : كلا ..دعوني أعود لأصلح ما فسد ..دعوني أعود لأرى

وجه أمي

كيف هي الآن ؟

هل تحبني ؟ هل هي راضية عني ؟

هههههههه ما أحقرني !! كيف تكون راضية عني وأنا بهذه الهيئة الشيطانية !!

هل هناك من يرضى على شيطان !!

إبليس لم يرضه أداء أفعال الشياطين ، فهي لم تملأ عينيه المغرورتين بعد

المغرور لايملأ نفسه شيء ولا يعجبه شيء

وأنا شيطان …فكيف سأنال رضا أمي ؟؟ وكيف سأعود عما أنا فيه ؟

صفق بيديه ضاحكا ..نظر في التفاحة ..الفراش ..الأرض

والسجن الضيق ..واللباس الأحمر

ابتسم : كنتُ أكره اللون الأحمر …لاأحبه ..لم أتاجر فيه .

حتى تلك المرأة حرمتها من ارتداء كل ما فيه احمرار ..

ههههه كانت تجتهد كثيرا في شراء ألوان أخرى منتظرة رضاي !!

تحسس معصمه : لاتوجد ساعة …كم من الوقت يفصلني عن معانقة الحبل يا ترى …أراه الآن مشتاقا لعناقي ..

هذا المعصم سيكبلونه خلف ظهري ..بحبل شديد ..

ثم سأتحول إلى جثة تستل منها الروح شعرة شعرة

سأغمض عيني ..لاأحب أن أموت وعيناي شاخصتان

سأقبض على شفتي ..لاأريد أن يتدلى لساني

وســــ!!!

في أثناء حوار ذلك المحكوم لنفسه : سمع أصواتا غريبة

أحدهم يناديه : عامر …عامر !!

قال في نفسه : من هذا ؟ منذ حين لم أسمع اسمي يتردد بهذه الطريقة ..كانوا يلقبونني بــ(الركول)

يا إلهي ..منذ زمن لم يناديني أحدٌ باسمي …سوى أمي تلك الليلة التي قالت لي فيها : عد ْ يا عامر

عامر

اسم جميل : لأول مرة أتذوق اسمي وكأنني سأعيش من جديد …

عامر

عامر

ظل يردد اسمه حتى غلبه النعاس.

كان الليل طويلا باردا ، والسجن الانفرادي كحجرة لجلد الذات وقهرها ..يؤنبها ..يخلخلها .يستهزئ بها.

لفه الظلام لم يبدُ شيء منه سوى الحمرة الفاقعة : للتفاحة والقميص الأحمر .

التف حول نفسه مرتعدا ؛شيء يشبه دمعة تحدّرت من منكسر العين التي أغمضها محدثا نفسه أنه سيصحو في القبر.

نومٌ ، فتقطعٌ، فحلمٌ يسلب نومه ..أصوات رصاص ..أقدام تجري تملأ المكان ضجيجا ..هتافات ..هلهلة

أحدهم يقول : لاتشعلوا النار ثمة سجين يرقد في أحد الغرف

تقلب على يمينه : قال أحلام ما قبل الإعدام تقطع نومي ، تقضّ مضجعي ، تجرعني عذابات رجل على عتبات قبر !

أريد أن أنام وأشعر أنني إنسان !

صوت سلاح عتيد

صرير مفاتيح السجن

قام ذعرا : وهو يردد الشهادة …يتلعثم لسانه بالاستغفار .

نسيتُ أن أقوم آخر الليل لأصلي ..ولو لمرة واحدة في حياتي قبل أن يفصل عنقي عن جسدي ..

أريد أن أدخل القبر بإنسانيتي التي دهستُها بقدماي

أريد أن أكون طاهرا !

السجان اقترب ..جسده انكمش

تبلدت ساقاه ..لم يقوَ على الوقوف ..اسودّ وجهه

تظاهر بالرجولة ..بالعنفوان ..بالرجل “الرركول”

سأبدو أمام خصمي قويا ..نعم أنا عشتُ “رركولا وسأموت “رركولا” …الحوت عندما يصطادونه لايشعر أحدهم بالشفقة عليه !! الحيوان الوحيد الذي إذا أخرج من البحر ووضع على سطح الأرض ..ينظرون نحوه بشموخ هو الحوت ..

أنا كذلك “رركول ” لقد أغدق عليّ أبو السرور بهذا الاسم حينما قال : أنت يا ولد “رركول

أنت مثل الحوت الضخم السريع …تفعل أشياء بخفة ودونما تردد أو خوف أو شك !

نعم سأموت لا أريد من أحد أن يشعرني بشفقته عليّ

حتى أمي يجب أن تبقى صامدة وهي تراني أتلوى كالأفعوان وتهزني الرياح في ذلك الحبل .

يا إلهي : اقترب السجان …سيكبلني ..أشعر بامتعاض ..بآخر لحظة في الحياة …ليتهم يعلمون أنني مظلوم !!

يتهامسون : إن الرجل الذي قتلته هو ابن الحج سرور !

تلك المسميات التي أغدقها علينا ذلك الرجل : أضاعت كثيرا من إنسانيتنا !

لقد اقترب هاهوذا يتنحنح…كأنه يشتهي أن يراني ملفوفا في الحبل تراقصني الرياح كالريشة …

جسد الرركول يتدحرج في الهواء

ولعل خصومي الآن ينتظرون ببالغ الصبر ليصفعوني وأنا “أتمرجح ” !!!

ازداد انكماشا ، ضعف صوته ، أجفل قلبه ، هدأ نبضه كأنه توقف عن الحياة …البرودة اجتاحت كيانه الضئيل..

ابتعدت الأقدام ..زادت ابتعادا …هدأت الأصوات ..ما من همس..ما من خشخشة لمفاتيح أو صرير لأبواب .

لقد نسوني؟ أم أن الصبح لم يأتِ بعد؟

وجم في مكانه وهدأت أنفاسه ..حدّث نفسه بالوقوف .. ليعاين شخصه ، نظر في جسده النحيل ، تأكد من الموت. سجد على الأرض ، تحدث طويلا أغرقته دموعه ، لاأريد القيام ..خذني يالله الآن !!

تزايدت الأصوات : ترددت تدافعت

أحدهم قائلا: كسّروا السجون ..أخرجوهم أخرجوهم

صوت رصاص غير مألوف لديه ..ما الذي يحدث؟ قال؟؟

قام مرتعشا..تذكر أنه “الرركول” ..نسي نفسه ، صعد إلى الشباك العلوي الصغير جدا ؛ الموارب لدورة المياه..أصدر صوتا مبحوحا …هيه هيه

ارتفعت النيران ..الحرائق أتت على السجن ..اقتربت منه النار والأدخنة ..ابتسم قائلا: يبدو أنني سأموت تحت الهشيم ..هذه المرة لن يشاهدني أحد من خصومي متأرجحا في الهواء ….عايش لحظة الاحتراق ..قوة النيران دفعت الأبواب فاندفعت وانفتحت …سحب ساقيه الضعيفتين …خرج ببطء وهو يردد : أمن هرب ؟

ردد / يا حراس

ما الذي يحدث ؟

الأصوات تقترب وتبتعد…

خرج ليسأل أحدهم ..قال السجين الآخر :

أنت المحكوم ؟

نعم

لقد من الله عليك بالحياة !

كيف ذلك ؟

انظر : يقولون ثورة

تراجع إلى الوراء ، انتحى ركنا قصيا ، وأَد نفسه القديمة ارتدى لبوس الحياة ، بحث عن الإنسان الموجود في عامر ، كان ملتفا بلفافة بيضاء مقفل عليه في سراديب النفس السجانة .

أعاد على نفسه : سأثور على الرركول، سأجثته من نفسي

سأقطع زعانفه لأصبح إنسان اللحظة

أنا عامر وحسب .

انطلق نحو الملأ ليخبرهم أنه تخلص من الرركول

بين شوارع مدينة دامعة ، وخوف خفي ..وأنفاس تلهج بالحياة ..رآها ..غازلها ..قال بصوت مسموع وهو يغمر التراب : لقد تاجرتُ فيكِ ، وراودت الكثيرين لكي أفوز بقبضة من دراهمهم البخسة ، هأنذا أعود إليك بثياب الزفاف ..كي تبدين أجمل عروس ..

كان صوت المرأة وهي تقول له : عامر انتبه الرصاص من حولك

وأمه تصرخ : عامر عد يا عامر نحن نريدك

لكنه مات صبيحة الحكم بالإعدام شنقا حتى الموت

برصاصة أتت عليه فأردته طريحا في حجر أمه، ومَن حوله الجميع يتصارخون عامر مات رجلا .

مقالات ذات علاقة

ضباع الغرفة

فتحي محمد مسعود

حفاة…نعم حفاة

النوارس

خليفة الفاخري

اترك تعليق