المقالة

في اضمحلال الشّارع

صورة عامة لمدينة طرابلس (الصورة: عن الشبكة)
صورة عامة لمدينة طرابلس (الصورة: عن الشبكة)

يحاول هذا المقال التّفرقة بين مفهوم “الشّارع” ومفهوم “الطّريق”. الأوّل بوصفه فضاءً للتّوقّف، والثاني بوصفه فضاءً للعبور. يفترض الكاتبُ أنّ الشّارع لا بدّ أن يكون فضاءً مرتبطاً بالذاكرة الثّقافيّة، يُعطي الأولويّة للمُشاة على حساب المركبات الآليّة. يرى الكاتب أنّ الشّارع فضاءٌ نادرٌ في ليبيا، وأنّ أحد تحوّلات البنى الفوقيّة والتّحتيّة بعد الحرب اللّيبيّة الأهليّة (2011 – 2021) هو فرط اضمحلال (نستعمل كلمة اضمحلال، للإشارة إلى تقهقر كفاءة/ ضعف جودة/ بداية اختفاء) الشّارع.. بلا ريب، ثـمّة فراغات بين كُتل البيوت والمباني، لكنّها في الغالب ليست شارعاً بالمعنى الثّقافيّ، لأنّها تفتقر إلى خصائص الشّارع من تكاملٍ بين البناء التّحتيّ وعناصر العناية بالذّاكرة الثّقافيّة.

هندسيّاً، يُمكن التّمييز بين نقطة الـ “هنا”، ونقطة الـ “هناك”، والخطِّ الواصِل بينهما حيث اللّاهنا واللّاهناك. الشّارع إمّا أن يتموضع هنا أو هناك، إنّه مختلف عن الطّريق الذي يُعدّ فضاءً يقع في الخطّ الفاصل. وعلى خلاف الطّريق، فالشّارع ليس ممرّاً للحركة السّريعة، بل مكاناً للوقوف وتوطين المُمارسات الاجتماعيّة التي يغلب عليها طابع الحركة المتأنّية. ولأنّ الممارسة الفنّيّة تقتضي توفُّر مجال زمنيّ مُلائم، يسمح بالانتباه والـمُراقَبة والتّفاعل؛ فممرّات الحركة السّريعة لا يُمكن أن تستجيب لاشتراطاتِ الفضاء الفنّي. من جهةٍ أخرى، يحتاج الفضاء الفنّيّ إلى تهيئةٍ مكانيّة. إنّ براح الرّصيف المُلائم، وتوفُّر الأُطر عبر تناغُم التّعبيد، التّرصيف، التّشجير، التّعشيب، والإنارة، وكذلك الشّرطة الرّاجلة بعناصرها النّسائيّة، وعامل النّظافة، وتوفُّر المباني التّاريخيّة ووسائل العناية بالذّاكرة الشّعبيّة، من نُصب تذكاريّة وتماثيل ومرافق سُبل الرّعاية العامّة، ونزوع التّصميم إلى التّصميم الشّامل الذي يُراعي اختلاف حاجات فئات المُجتمع، وفوق هذا، والأهمّ، توفُّر تصوُّر محدّد وحميم في خيال المُجتمع والبلديّة عن الشّارع بوصفه فضاءً “هيتروتوبي” لا مُجرّد ممرّ، يجعل الشّارع وجهةً في ذاته.

الشّارع إذن مجالٌ مؤطَّر بأُطرٍ ذات بُعدٍ حَضَريّ ثقافيّ، ولا يُمكن للفراغات الـمُترَبة المفتقرة إلى التّأطير المُلائم، أو تلك الـمُعبّدة التي تقبع تحت وطأة تسارُع الإطارات، أو التي تزدحم بالسّيّارات المركونة على الجانبَيْن أن تلعب دَوراً إيجابيّاً في ازدهار المُمارسات الاجتماعيّة بما تشتمل من مُمارساتٍ فنيّة، ولا يُمكن للفنّان أن يُنشئ الشّارع الذي لم تُنشئه البلديّة. إنّ ما بات يفتقر إليه الشّارع اللّيبيّ هو تصوّر البلديّة للشّارع خارج كونه قَناةً من فراغ تربط بين وعاءَيْن، والأخْذ في الاعتبار البُعد التّاريخي الثّقافي للفضاء والعمل على توسيع الرّصيف وتوضيب سُبل الرّاحة من مقاعد وظِلال، وإشراك الفنّان في تأثيث ذاكرة المكان بالنُّصب التّذكاريّة والتّوطين التّدريجيّ للتّماثيل وهُويّة التّصميم والألوان، والبحث عن حلولٍ استراتيجيّة لمشكلات الازدحام بعيداً عن خَنْقِ الرّصيف الذي بات بالكاد يَستوعب الـمُشاة ويضيقُ فضاءً وذَرْعاً بالواقفين أو الجالسين.

يُمكن الإحالة هنا إلى شارع مَيْزَرَان بوصفه تمثيلاً دقيقاً للشّارع اللّيبيّ النّموذجيّ، وهو “نموذجيّ” ليس لأنّه نموذجيّ حقّاً؛ بل لأنّه مثالٌ صريح وواضح للنّموذج اللّيبيّ الشّائع في ثقافة تخطيط الشّوارع وإدارتها. إنّه لَمِنَ المؤسف القول إنّ شارع مَيْزَرَان بات من أهمّ شوارع طرابلس المهدَّدة بالاندثار، إذ على الرّغم من حمولته التّاريخيّة وحظّه الوافر من الاهتمام، مُقابلةً بغيره، لا يبدو أنّ البلديّة تنجح في تحقيق الاستفادة القصوى من العوامل التي حافظت على كفاءة هذا الشّارع زمناً طويلاً؛ فالبلديّة لا تعمل على تأطير الشّارع، بل على تأطير “الطّريق” الذي يقف عليه الشّارع! وهو بهذا يسير تدريجيّاً نحو الأسوأ وإن بدا ظاهريّاً بحالٍ جيّدة، وبعبارة أكثر تراجيديّة: سيندثر شارع مَيْزَرَان، كغيره من شوارع ليبيا النّادرة النّموذجيّة حقّاً، ولن يبقى منه سوى الطّريق!

في البحث عن المرأة الضّائعة

يُمكن النّظر إلى ظاهرة انسحاب المرأة من الفضاء العامّ في ليبيا على أنّها أحد أبرز الاتّجاهات الثّقافيّة النّاتجة عن اضمحلال الشّارع. والواقع أنّه لم يكُن انسحاباً مُفاجئاً بل امتداداً لغيابٍ تاريخيّ مُزمن تخلّله بعض الشَّغَب الثّقافي من طَرَفِ المرأة التي لطالما أُبْعِدَت عن مُدَرّجات الملاعب والأندية والحقول النّفطيّة والمقاهي.. غير أنّ الحربَ الأهليّةَ التي جَرّدت الشّارع اللّيبيّ من عنصر الأمن، بوصفه أحد الأُطُر الـمُحدِّدَة للشَّارع، قد أمعَنَت في تخويف المرأة فانصاعت إلى الضّغوط الطّاردة مُسَجِّلةً تراجُعاً قياسيّاً. انسحبت من رصيفٍ بات يَعِجُّ بشعارات الحرب وخطاب الخشونة: الشّجاعة، الفداء، السّيطرة، القوّة، النّصر، إخضاع الخصوم، الانتقام والاختطاف، وارتكنت إلى الاحتماء داخل الـمَركَبات الآليّة الخاصّة التي أضحت وسيلة المواصلات شبه الوحيدة، بعد انهيار منظومة المواصلات العامّة. باتت المرأة اللّيبيّة كائناً عابراً في الفضاء، لا تخرج في الغالب إلّا لضرورة مُلِحّة، ويستغرق القسم الأوفر من مشوارها في منطقة جُغرافيّة تقع بين الـ “هنا” والـ “هناك”، وهي فوق هذا ضيفة ثقيلة على فضاء الذّكور، مُلْزَمة بالامتثال إلى قوانين مرورهم من لباس غامق طويل فضفاض، وحظر تجوال شبه مُلزِم بعد الغروب. ولقد امتدّ انسحابُها من الفضاء الفعليّ إلى الفضاء الرّقْميّ الذي تنامت فيه قيمُ الخشونة أيضاً وخطابُ الحرب والعنف، فتراجع الحضور الأنثويّ الصّريح في الشّارع الرّقْميّ، واختبأت كثير من الفتيات اللّيبيّات خلفَ اسماء مُستعارة أو بات عليهنّ الابتعاد عن استعمال صورهنّ الشّخصيّة رضوخاً لرغبة الأهالي، أو تجنّباً لتقريع المجتمع، أو هروباً من صداع تبريرات التّحرّش الرّقْميّ.

إنّ الاتّجاه الثّقافيّ المتمثّل في انسحاب المرأة اللّيبيّة من الفضاء العامّ يُعاكس ما كان يُفتَرضُ أن يكون عليه الوضع في الشّارع اللّيبيّ، إذ بمراقبة شوارع مُجتمعات محيطة باتت تتأنّث بفعل توطين بعض الحقوق وحمايتها بقوانين وقرارات مُلزِمة؛ نجد أنّ انحدار الشّارع اللّيبيّ يحول دون تحقيق النّساء اللّيبيّات الاستفادةَ القصوى من الاتجاهات العالميّة المواتية لنيل مكاسب حقوقيّة أكبر. لا ريب أنّ أسباباً أخرى قد ساهمت في انسحاب المرأة من الفضاء العامّ، منها الغلوّ الدّينيّ، والعادات الاجتماعيّة التي كَرّست وضعاً ثقافيّاً خاصّاً بالمرأة أَثْقَلَ حركتَها وجعل موقعَها البيت، وهي عوامل تفاوتت بين المدن اللّيبيّة والقرى عبر قرون، غير أنّ ما يُضاف إليها الآن هو عامل الحرب وما نتج عنه من وضعٍ أمنيٍّ مزرٍ، وما خلّف من دمار في البنيتَيْن الفوقيّة والتّحتيّة للشّارع. إنّه بقليل من الانتباه تمكن ملاحظة العَلاقة الطّرديّة بين حُريّة حركة المرأة في الفضاء العامّ و”جودة الشّارع”، وأنّ انسحابها، وإن كان ناتجاً عن ضعف كفاءة الشّارع، لهو أيضاً – بقراءةٍ مُعاكِسة – مؤشّرٌ على اضمحلاله.

“وين تمثال الغزالة”/ في البحث عن الذّاكرة المثقوبة

إنّ العَلاقة بين التّاريخ الـمُعتنى به، وبين ازدهار الطّرائق الفنيّة لتوثيق التّاريخ الـمُعتنى به، هي علاقة ثنائيّة الاتّجاه: يؤثّر فقدان الذّاكرة الثّقافيّة على تقبُّل المُجتمعات لتماثيل رموزها ونُصُبِها التّذكاريّة. وفي المقابل، ففقدان المُدن العتيقة تماثيلها ونُصبها التّذكاريّة يجعلها عجائز بذاكرة طفل! حينما كانت السّلطات اللّيبيّة تُعيد تشكيل الذّاكرة القوميّة الدّينيّة للمُجتمع اللّيبيّ، عمدت إلى سلسلة من الإجراءات، تزامنت مع، أو ربّما كان منها، نقْل التّمثال التّاريخي للإمبراطور الرّومانيّ “سبتموس سيفيروس” من مدخل المدينة القديمة في العاصمة طرابلس إلى متحف “لبدة”. ولا ندري هل حدثَ هذا لأنّ سبتموس، في نظر صاغة السياسات الثّقافيّة في ليبيا، “ليس عربيّاً ولا مُسلماً”، أم لأسباب أخرى. الثّابت أنّ أصوله الشّمال إفريقيّة ومولده في مدينة “لبدة” اللّيبيّة، لم تبدُ كافية لجعْله من ضمن التّاريخ الـمُعتنى به لليبيا، في قلب عاصمتها. ولقد نسيَ اللّيبيّون تلك الشّخصيّة التّاريخيّة، ولم يعُد بوسعهم التّفكير في عودة ذلك التّمثال التّاريخيّ أو أيّ نصب تذكاريّ يدلّ على وجوده إلى مكانه في الشّارع، وظلَّ لعقود، ومازال، مجرّد مصطبة صخريّة. وفي المقابل عمدت السّلطات اللّيبيّة إلى إعلاء رمزٍ آخر يمثِّل روح سرديّتها القوميّة العربيّة، فشيَّدت تمثالاً في مدينة بنغازي للزّعيم العربيّ “جمال عبد النّاصر”، في “شارع الاستقلال”، أحد أهمّ شوارع المدينة، واستبدلت اسم الشّارع رسميّاً، ليغدو “شارعَ جمال عبد النّاصر”. غير أنّ هذا الرّمز أيضاً لم ينجُ من تقلّبات مزاج ذاكرة الشّارع اللّيبيّ؛ فبعد سقوط النّظام السّابق، وفي خضمّ الحرب الأهليّة 2012، عمدت إحدى القوى الأصوليّة، التي تنافست على السّيطرة على الشّارع اللّيبيّ، إلى إزالة التّمثال وإلغاء اسم الشّارع وإعادة إحياء الاسم القديم.

ولا يبدو أنّ التّصرّفَ الأخير مجرّدُ محاولةٍ يائسة لمحو “جمال عبد النّاصر” من الذّاكرة اللّيبيّة، بل أيضاً تعبيرٌ عن صعود اتّجاه ثقافيّ عقائديّ متطرّف مُعادٍ للتّماثيل والأعمال الفنيّة. والواقع أنّ هذا الاتّجاه، وإن كان حديث ازدهار، هو بطريقةٍ ما امتدادٌ لضعف علاقة المُجتمع اللّيبيّ بتماثيله وقلّة اكتراثه بالعناصر الفنيّة لتأثيث الذّاكرة، ولقد سبق أن أفاق سكّان مدينة البيضاء ولم يجدوا تمثالَ عمر المختار في ملتقى شارعَيْ “العروبة”، و”عُمر المختار”، من دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء البحث عن هذا الرّمز التّاريخيّ الفنيّ، بل سبق وأن أزيل ضريح عمر المختار نفسه من وسط مدينة بنغازي، بعد أن نُقِلت رفاتُه إلى موضع إعدامه في بلدة “سلوق”، وهي بلدة تعاني التّهميش والنّسيان، أيضاً من دون أن يكلّف الأهالي أنفسهم عناء الاعتراض. أمّا أكثر تجلّيات صعود اتّجاه عداء التّماثيل مؤخّراً، فهو الاختفاء المفاجئ لتمثال “الغزالة والفتاة العارية” الذي لطالما كان رمزاً للتّحرّر وقوّة الفنّ في العاصمة اللّيبيّة طرابلس. يُمكن القول إنّ الإفراط في التّنكيل بالتّماثيل والأعمال الفنيّة اللّيبيّة، وإن كان ناتجاً عن صعود اتّجاه ثقافيّ أصوليّ، هو أحد التّأثيرات التي تدفع باتّجاه اضمحلال الشّارع، لما يُـحْدِث من ثقوب بالغة الضّرر في ذاكرة الفضاء العامّ، ثقوب يصعب سدّها بطرائق أخرى.

جودة الشّارع/ في اضمحلال الاضمحلال

لا يَفترض كاتب هذا المقال أنّ تنمية الشّارع والمُحافظة على “جودته” هي مسؤوليّة السّلطات الرّسـميّة فقط، فللسلطات الرّسـميّة دَورها ولمؤسّسات المُجتمع المدنيّ دُورها أيضاً. كما لا يزعم أنّ سوء إدارة السّلطات والمُجتمع للشّارع هي المؤثِّر الوحيد على الاتّجاهات الثّقافية؛ إذ لا يُمكن إهمال الإرث العقائدي والعادات الثّقافيّة الموغلة في القِدَم وغيرها من عوامل مؤثِّرة. بل ما يُطرَح هنا تحديداً افتراضٌ يزعم وجود عَلاقة ثنائيّة الاتّجاه بين مدى “كفاءة الشّارع”، وبين فاعليّة الحياة الثقافيّة فيه. وأنّ حسنَ تدبير البنية الفوقيّة والتّحتيّة للشّارع، قد تكون إحدى استراتيجيّات الدّولة والمُجتمع في إدارة الاتّجاهات الثّقافيّة، وتحقيق الاستفادة القصوى منها.

وأخيراً، يَفترض الكاتب أنّ الاضمحلال ظاهرة تُمكن السّيطرة عليها إذا ما توفّرت الرّغبة الجادّة لدى صاغة السّياسات الثّقافيّة وصُنّاع القرار، باتّباع سلسلة من إجراءاتٍ تعمل على تأطير الشّارع بما يجعله مكاناً “صالحاً للتّوقّف”، و”صالحاً للجميع”، بالتّوازي مع تأطير “مخيّلة المُجتمع” عبر إدارة الذّاكرة الثّقافيّة المتعلّقة بالشّارع. يُمكن حينها، بقدرٍ من الـحنكة والصبر، عكسَ اتّجاه الاضمحلال، وإعادة قدرٍ معقول من كفاءة الشّارع، الشّارع وليس مجرّد الطّريق!


العدد 143 أغسطس 2023، من دوريّة أفق. مؤسسة الفكر العربي.

مقالات ذات علاقة

النّم في ليبيا وتونس

عبدالمنعم المحجوب

في الأسئلة

يوسف الشريف

مشاعري أم مشاعر الآخرين ؟!

محمد الزوي

اترك تعليق