هنا، على البقعة من الأرض الشاسعة الجرداء غير بعيد عن الحدود الغربية لحائط النخيل العظيم تقاتل رجال بحراب البنادق الساخنة والفؤوس والمناجل قبل تسعين عاما. هكذا كانت تروي جدته دون كلل. بمقدوره سماع الصيحات الجهيرة الغاضبة وصرخات الألم وأنين الجرحى لأولئك الرجال وقرقعة الحديد والغبار، تحت شمس الصيف الشرسة.
هم الرجال أنفسهم الذين كانوا يستقطرون الزيت حفاة هادئين من أشجار الزيتون حين تغيم السماء في الخريف وبهطل المطر. تمتزج الصور وتتركب عائدا إلى ذاته الطفلة عبر طريق حلزوني داخلي ينتهي في الأعماق حيث المشاهد للمعارك التي كان يخوض غمارها مع الصبية الأكبر سنا لا تزال تنبثق حية كاملة التفاصيل. الصيف، والمشاجرات والصراخ والبصاق والدم. عند هذه النقطة يشرع في إطلاق صوت يشبه الزمجرة لا سبيل إلى التحكم فيه، ويدرك في فزع مضاعف أن ألما مثل الألم النابع من نزع الجلد المحمر المتيبس من الحرق بملاقط صغيرة سيسري عائدا إليه عبر رأسه..
ذات مرة في طفولته، ظل لأيام متتالية يتأمل في الليل مشهد الجرح حين ضرب ذراع صبيا أكبر منه سنا بمنجل ملوث بالقذر والطين، لقد ظل بمقدوره الرؤية بوضوح حتى بعد أن يغيب في غمرات النوم، مشهد الشحم الأبيض والدم الذي أخذ يشخب بقوة من على جانبي الجرح مطلقا رائحة مثل رائحة الساقية المليئة بالضفادع..
فيما هو عاكف على التفكير في كل هذا الجزء من ذاته البعيدة حيث يتمازج الألم والغضب والخوف أخذ يتأمل كذلك كل ما سبق له أن شاهده على امتداد غابة النخيل والفسح الترابية الظليلة الرطبة التي بين جذوعها في الداخل تتسع على نحو أكثر قتامة، وتتوغل في العتمة أكثر فأكثر كلما مضى قدما للنبع الساخن الفوار الضارب بماضيه في عمق الغابة العظيمة..