النقد

(كونشيرتو قورينا ادواردو) والرواية الواقعية الحديثة

رواية (كونشيرتو قورينا إدواردو) للروائية نجوى بن شتوان
رواية (كونشيرتو قورينا إدواردو) للروائية نجوى بن شتوان

للوهلة الأولى يبدو (كونشيرتو قورينا ادواردو) (1) عنواناً غريباً للرواية الصادرة خلال الشهور الماضية للأديبة نجوى بن شتوان والتي ترشحت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية للرواية العربية لسنة 2023م. ولكن غرابته سرعان ما تتوارى حين نكتشف أنها تمنحه نوعاً من التشويق والجاذبية، والتحفيز لفك طلاسمه ومعرفة دلالات العتبة الأولى بكل أبعادها وجوانبها حين يتكشف لنا بعد قراءة الرواية أنها تلامس مضمونها وقصصها الممتعة. وبتفكيك عنوان الرواية الذي يتكون من ثلاث كلمات غير عربية بلا حروف عطف أو ربط أو وصل بينها نجده كالتالي:

1 – (كونشيرتو) وهي مفردة لاتينية تعني الاحتفال والفرح الجماعي في الهواء الطلق على أنغام الموسيقى والغناء والرقص بكل ما يحمله ذاك الفضاء من ابتهاج ومسرة غايته التشهير والإعلان الجماهيري الصريح عن الحدث.

2 – (قورينا) وهو اسم لاتيني يشير إلى مدينة شحات التاريخية المتأسسة سنة 631 ق.م بالجبل الأخضر شرق ليبيا، وتذكر إحدى الأساطير الإغريقية أنه جاء من اسم فتاة عذراء أو حورية بحرية شاهدها “أبولو” إله الشمس، صاحب المرتبة المقدسة لدى اليونانيين القدامى، وهي تقتل أسداً في المدينة الأثرية العريقة والتي بسبب نقص وشح المياه بها عبر السنين تحول اسمها إلى “شحات”.

3 – (إدواردو) وهو اسم علم أعجمي لباحث آثار أمريكي تزوج إحدى شخصيات الرواية خلال حضورها دورة تدريبية بالعاصمة الايطالية “روما” بعدما تعرف عليها أثناء عملها معه في آثار مدينة سوسة الأثرية بليبيا.

وقد استطاعت الكاتبة أن تجمع هذه المفردات الثلاثة في توليفة موحدة تحمل دلالات تتجاوز معاني ألفاظ لغتها المفردة المجردة، وتمنحها بكل جدارة إشارة وإحالة دالة على تلك الأحداث التاريخية المشهودة جماعياً في ليبيا، والمتفاوت ظهورها روائياً من حيث المكان والسرد عبر كل فصولها وأبرز وقائعها، التي شهدتها مدينة “قورينا” الأثرية، خاصة علاقة الحبِّ التي بطلتها (أمينة) العاشقة للتاريخ والتنقيب في مدينة الموتى (النيكروبوليس)، والأمريكي (ادواردو) الأكاديمي بجامعة السوربون وعالم الآثار بالمدينة الليبية العريقة الذي يظهر في آخر فصول الرواية التي يتتابع فضاءها الزماني محدداً سنواتها، ورابطاً مشتركاً يمسك بحبكتها الممتعة. كما يمكن القول بأن هذه التشكيلة الثلاثية المثيرة للعنوان قد أدت وظيفتها في بعث الكثير من الدهشة والتشويق لجذب القراء لمطالعة فصول الرواية من خلال إطلاقها العديد من الأسئلة في أذهانهم حول معانيه ودلالاته، ومحاولة التعرف على علاقة المفردات الثلاثة بالنص الروائي؟ وما مدى تمكنها من التعبير عن أحداث ومضمون الرواية المسرودة بمهارة واقتدار؟

الموضوع:

تأسس موضوع رواية (كونشيرتو قورينا ادواردو) على تداعيات قرار سياسي أصدره نظام معمر القذافي عام 1979م يخص الحياة الاقتصادية في ليبيا وذلك بتأميم الملكية الخاصة، ومصادرة العقارات الفردية، والزحف “الثوري” على المصانع والمحلات والمؤسسات التجارية المملوكة للأفراد، ووضع يد الدولة على جميع تلك المقدرات الاقتصادية واغتصاب حقوق أصحابها وحرمانهم من استعمالها، بل نعتهم بصفات الاستغلاليين والسارقين ومصاصي دماء الشعب وغيرها وفق مقولات وأطروحات الكتاب الأخضر التي اتخذها نظام القذافي منهجاً وقانوناً لتجريم تلك الأعمال التجارية الخاصة، والتحقيق الاستجوابي مع ممارسيها بشبهة التخوين إثر إصداره قانون (من أين لك هذا؟).

وجميع تلك التطورات السياسية والتغيرات الاقتصادية التي تبعتها وألقت بظلالها على المجتمع الليبي، انعكست اجتماعياً مصحوبة بالعديد من التأثيرات السلوكية والمعيشية المختلفة على الحياة الأسرية الفردية والجماعية بكل مستوياتها، سواء للملاك الأصليين أو لأولئك العمال والرعاع الذين سطوا على حقوق غيرهم، مما أدى إلى تدمير بنى العلاقات الإنسانية في المجتمع الليبي وانهيار أخلاقيات العمل وتقاليده وتشريعاته وضوابطه التي كانت سائدة بين أرباب العمل والعمال الذين كانوا يرتزقون من المصانع أو المؤسسات التجارية الخاصة ويعولون أسرهم من خلالها.

و(كونشيرتو قورينا ادواردو) هي رواية أدبية تجمع تلك الأحداث الواقعية مع صورٍ افتراضية متعددة صنعها خيال الكاتبة، جاءت في تسعةٍ وعشرين فصلاً تتابعت وقائعها وتعالقت عناوينها كالتالي: قطار ليبيا، الفويهات، الزحف الأخضر 1973-1978، يوليو 1977، ديسمبر 1978، 1980-1989، المتسولون، سنوات الحصار “عشرية الثمانينات”، كادي نيني تعيش هنا، ثلاثة عشرة رجلاً ورصاصة، أحاديث الظلام، فتق جدي، الليل في بنغازي يبدأ من ليبيا، أمينة وأيوب، نصف التمثال، اليوم الذي نطق فيه قدري، الغارة الأمريكية على بنغازي وطرابلس 1986، فتحية الشواري، كسر وترميم، القدر يدفعنا نحو مصائرنا طوعاً وكرهاً، وردية الليل، الستلايت والجوال وأشياء أخرى، نريدك حتى ينتهي الحب، الرحيل، أريد قهوة بالآيس كريم، الاهتزاز، لامريكانو، الثورة وتداعياتها، عاجل بنغازي.

ومن خلال تأمل هذه العناوين المتسلسلة نلاحظ أن الوقائع التاريخية الموثقة حاضرة بغزارة في الرواية، وتحتل نصيباً كبيراً فيها من خلال السنوات والتواريخ المحددة والمذكورة بها، وتشير صراحةً إلى زمن وقوعها، وما تضمنته تلك السنوات من معاناة شخصياتها والظروف المعيشية القاسية داخل ليبيا إبان نظام حكم القذافي السابق.

وعند محاولة ربط سياقات رواية (كونشيرتو قورينا إدواردو) بالأحداث التاريخية التي وقعت واستندت إليها في مجريات نصها وشهدتها ليبيا فعلياً، يمكن مقاربتها بركائز ومنطلقات الواقعية الحديثة التي تنتهجها الرواية العربية لمواكبة قضايا المجتمع، والسعي لإثارة أو إجابة بعض أسئلته الموضوعية عن مساحة الإبداعي التخيلي في جماليات محتوى مضمونها. ولكن بالرغم من هذا المنحى الذي يثير الكثير من التفكير حول حجم المتخيل والواقعي في الرواية إلاّ أنها تبقى نصاً يتقاطع فيه التاريخ والواقع والخيال في انصهار جمالي يضيف للمنتوج الإبداعي الإنساني عامةً.

الحكاية:

تحكي رواية (كونشيرتو قورينا إدواردو) سيرة حياة البطلة ساردة الرواية، وهي فتاة ليبية تنتمي لعائلة ثرية عميدها الجد (الحاج أحمد عمران) الذي يملك مصنعاً للألبسة الجاهزة في بنغازي ويديره مع أفراد أسرته التي تضررت أملاكهم وتراجع مستوى حياتهم جراء الزحف على مصنعهم، ومن ثم تدني دخلهم وأوضاعهم المالية خاصة بعد وفاة والد الساردة (محمود) في السجن جراء التنكيل به بسبب معارضته الزحف على مصنع والده. وتطرح الساردة أسئلة مريرة حول أولئك الذين زحفوا على أملاك غيرهم وسرقوهم، ونهبوا مصنعهم تحت حماية القوانين الجديدة للنظام وأمام تحسر والدها الراحل (ما الذي جرى وقلب الناس هكذا؟ أم هم هكذا دائما وهو لم يتبينهم؟ أعمى لم يرهم على حقيقتهم وحوشاً كامنة متأهبة للانقضاض، خسيسون مهما قُدّم لهم من خير!) (2) وتحيلنا هذه الأسئلة المنتمية إلى الواقع المعاش بكل تداعياته لدور علم النفس الاجتماعي لدراسة وفهم تلك السلوكيات البشرية الغريبة لأولئك الناس، وتحليل فكرهم المتعارض بشكل واضح مع مبادئ القيم والأعراف الأخلاقية الإنسانية وتعاليم العقيدة الدينية الإسلامية.

ولم يقتصر حضور السياسة في رواية (كونشيرتو قورينا إدواردو) على تلك الإجراءات الاقتصادية وانعكاساتها التي دمرت المجتمع الليبي فحسب، بل نجدها تظهر في الإشارة إلى قضية سقوط طائرة  شركة “بانام” الأمريكية للطيران فوق مدينة “لوكربي” الاسكتلندية، وجريمة حقن أطفال مدينة بنغازي بفيروس الإيدز، وطرد اليهود الليبيين في ستينيات القرن الماضي، وبعض مشاهد شنق المعارضين لنظام القذافي خلال شهر رمضان المبارك في عقد الثمانينيات، وغيرها من الأحداث المأسوية التي عصفت بعائلة الجد (أحمد عمران) والتي من ضمنها قرار حفيدته الالتحاق بالكلية العسكرية للبنات وما تبع ذلك من صراعات فكرية ومعارضات عائلية، وحتى الوصول إلى المرحلة السياسية الأخيرة الراهنة المتمثلة في حركة 17 فبراير 2011م للتغيير وما أشعلته من حروب أهلية بعدة مدن ليبية أدت جميعها إلى انهيار كيان الدولة برمته، وانخراط (أيوب) حفيد الجد (أحمد عمران) في إحدى التنظيمات المليشياوية المسلحة بمدينة بنغازي لتزيد مأساة العائلة ومعاناتها جراء كل تلك التطورات السياسية الاقتصادية الاجتماعية.

الفضاء المكاني:

إذا كانت الرواية اختارت فترة سبعينيات القرن الماضي وما تلاها من عقود زمنية، مع بعض الاسترجاع الماضوي لما قبلها من سنوات، لتكون الفضاء الزماني الأرحب لأحداثها، فإن الفضاء المكاني تنقلت به الساردة من أحياء مدينة “بنغازي” مثل “الفويهات” و”جليانة” و”سوق الجريد” إلى مدن “طرابلس” و”مصراته” و”سوسة” و”طبرق”، وخارج ليبيا مثل “القاهرة” و”الاسكندرية” و”ألمانيا” و”الأراضي المقدسة” كذلك في بعض الأحيان. وقد أضفى هذا التنقل الكثير من الإثراء في السرد والوقائع التي شهدتها كل تلك الأمكنة والشخصيات التي عاشت أو مرت بها، إضافة إلى ما تضمنته تلك الأماكن من تفاصيل دقيقة وفضاءات ثانوية داخلها مثل الشوارع والفلل والمصنع وغيرها.

الروائية الليبية نجوى بن شتوان (الصورة: عن منصة تكوين)
الروائية الليبية نجوى بن شتوان (الصورة: عن منصة تكوين)

الشخصيات:

زخرت رواية (كونشيرتو قورينا ادواردو) بالعديد من الشخصيات الرئيسية التي تباينت أدوارها في الفضاء الروائي باختلافات بسيطة، مما يجعل أغلبها يحتل مراتب متقدمة وشبه متساوية من حيث الفعل الروائي. وهذا الظهور العددي الكبير للشخصيات يمنح الرواية صفة تعدد الأصوات (الرواية البوليفونية) كما يسميها “ميخائيل باختين”. وإن كان صوت الساردة هو الشخصية الأساسية المهمة في هذه الرواية، فإننا لا يمكن أن نغفل أهمية أصوات شخصيات أخرى عديدة مثل الجد (أحمد عمران) والأخت (أمينة) و(الأم نجاة) والأخت التؤام (ريم) وابنة العم (آمال) والأخ (أيوب) وصديقه (مروان) والعم (امزا مسعود)، والعم (امزا خالد) و(تيتي آتاريا) و(تيتي تهاني)، و(كادي نيني)، وزميلة الدراسة (فتحية الشواري)، والطبيب المصري (سيد عبدالعظيم)، والأمريكي (ادواردو) الذي يظهر في آخر فصول الرواية لينال أهمية مميزة خاصة من خلال علاقة الحب والزواج التي ارتبط بها مع إحدى شخصيات الرواية.

ولا شك بأن هذا العدد الغزير من الشخصيات منح إثراء موضوعياً سردياً للنصّ وتشويقياً فنياً كبيراً للرواية، وقد استطاعت الكاتبة تحريك كل شخصية منها باقتدار ومهارة حرفية، ومنحها المساحة المستحقة في فضاء الرواية لتصنع منها حبكة قصصية ثانوية متصلة، لا تخلو من التشابك مع الشخصيات الأخرى التي قبلها أو بعدها، مما يجعل الحبكة الدرامية في الرواية تتوالد حبكات عديدة ترتقي بالنصّ في أحداثه المتداخلة موضوعياً وفنياً.

الوصف والحوار والأسئلة:

بكل براعة وظفت الكاتبة تقنيات عديدة ازدان بها النص في (كونشيرتو قورينا ادواردو) بأسلوبها الروائي الآسر المتسم ببساطة المفردة اللغوية وجمالية الصور التعبيرية، فظهر مكتظاً بعناصره الفنية المتنوعة، بداية من الاستهلال في السرد بوصف الفضاء المكاني والزماني بلغة تهيء القارئ لاستقبال ما يتلوه من أحداث أو شخصيات، ثم جاء الوصف للفترات الزمنية بتقلباتها السياسية وظروف حالتها المعيشية، والشخصيات المتحركة على بساط وفضاء الرواية سواء بوصف ظاهرها وشكلها الخارجي أو الغوص في أعماقها الوجدانية وانفعالاتها النفسية وتصوير أحاسيسها ومشاعرها ونقل صوت مونولوجها الداخلي في حوارات الذات، إضافة إلى تقنية مزج الوصف الديناميكي المتحرك بالمونولوج الداخلي لتقريب المشهد لذهن المتلقي (حفظنا ما يفعله لمعرفة المرض الذي نعانيه، افتحْ فمك، تنفس جيداً، خُذ شهيقاً وأخرجه على مهل .. أخرج لسانك.. اكشف عن ظهرك، افتح عينيك.. مد يدك.. ارفع قميصك، نبضك ممتاز.. هل لديك صداع.. هل لون بولك متغير.. هل لديك ألم في المعدة.. سأصف لك دواء لمدة أسبوعين.. بعد الأكل.. قبل النوم.. بعد الأكل.. قبل النوم.. هوب ستكون مثل الحصان. لكن أي حصان؟ لا أحد يدري فالأحصنة المريضة لا يراها أحد عادةً.) (3)

وكذلك صوت الأنا الداخلي المتدفق في تتابع هارموني بكلِّ سلاسةٍ، متسلحاً بالكثير من الأسئلة الفكرية التي لامست في بعض جوانبها المعتقد الديني خلال فترات الانكسار والقلق النفسي، أو العجز عن فهم الأحداث المتلاحقة جراء الأزمات المتعددة التي واجهتها عائلة الجد (أحمد عمران) كما تعبر عنها الساردة (ولأنَّ الله وحده من يداوي الآلام فقد كان جدي بحاجة إلى ترميم نفسه التي تكالبت عليها الجراح وتضميد الحفيدين التائهين. أمينة كانت تقترب من إنكار وجود ربٍّ يساعد عبده في الأزمات، بل أضحت تسألُ جدي عن ربٍّ لا يصنع سوى الأزمات ويتلذذ بتعذيب المخلوقات ويعد بالصبر على ما ابتلي العبد به ارضاءً لنزوته في التسلط والغرور، ربّ يرى كلَّ ظلمٍ ويصمت ما جدواه؟

ربٌّ لا يتدخل لإنقاذ الضحايا لا يختلف عن شيطانٍ أخرس.

رأى جدي أن يأخذ أمينة إلى الله حتى تستعيد الثقة به. وتخرج من حزنها الروحي الشديد. أمينة كانت غاضبة من الله وحزينة بسبب ذلك الغضب.

ولدت فكرة زيارة البقاع المقدسة على طاولة المطبخ وأخذت تكبر عند كل اجتماع للطعام حتى أخذتهم إلى المطار وسافرت بهم. ودعتهم أمي وعمّاتي باكيات، وسكبن الماء والدموع وراءهم كغدير.

– أدعوا لأبيكم.. لا تنسوه في الدعاء.) (4)  

أما الحوار الذي يشكل قاعدة أساسية في البناء الروائي باعتباره ركناً مهماً في إنجاح أو إخفاق الرواية، فقد تنوع كثيراً في أسلوبه وموضوعاته ومساحاته التعبيرية وأمكنته، ولكنه ظل يفيض عذوبة وجمالية وإمتاعاً فكرياً في جميع مواضعه خاصة حين يكون معززاً بالأسئلة المتوالدة:

(سألتني خالتي مجدداً:

– لماذا توكأتِ على يدك وهي مكسورة؟

فسألتُها بدوري:

– لماذا كل هذه البقايا في سيارتك؟

– وهل هذا وقت السؤال عنها؟

– لا أدري، ورد في بالي الآن.

– أحياناً تتكلمين مثل جدك.. أسأله عن أمر فيعلق لي عن آخر. أمك تسأل عنك على كل حال.

– سأتصل بها في المساء.

– لم تخبريني ماذا تحدثتي أنتِ وإدواردو أمس.

– كم هو بعيد الطريق إلى وارسو كما يقول جدي.

– تكلمي بشكل جاد.

– بشكل جاد كان هو شهرزاد وأنا شهريار.. تكلمنا عن الآثار.) (5)

وكذلك حين يكون عميقاً مشاكساً للفكر الديني والظروف الاقتصادية الأسرية الحرجة، مثيراً العديد من الأسئلة المتصادمة مع ما يستوطن العقل البشري من إرث وعقيدة وجودية مترسخة بالإيمان والتسليم المطلق للإرادة الإلهية:

(- هل تمزج يا جدي؟ ثلاث مئة دولار فقط! هل سيسمعني الله بثلاث مئة دولار فقط! حتى الشيطان لن يرضى أن أرجمه بهذا المبلغ المخزي.

– هذا واقع الحال يا بنيتي والله يعلم حالنا ولا تخفى عنه خافية. الدولة لا تسمح إلاّ بثلاث مئة دولار سنوياً للشخص الواحد.

– أستــرُ لي أن أدعوه هنا ببلاش على أن أذهب إلى السعودية لكي أدعوه بثلاث مئة دولار فقط. ما هذه الحياة يا ربّ؟ لماذا نعيش هكذا، إذا غطينا رؤوسنا تعرت أرجلنا وإذا غطينا أرجلنا تعرت رؤوسنا؟) (6)   

ونلاحظ أن حوارات رواية (كونشيرتو قورينا إدواردو) اتسمت بالبراعة المبهرة بحيث ظلت شخصياتُ الرواية تتكلم بعفويتها واستقلاليتها، وأبرزت من خلال ذلك ملامح كل شخصية في الرواية سواء أثناء ما اصطلح تسميته بالديالوج وهو لغة الحوار العلني المباشر المصرح به، أو الحوار الذاتي مع النفس وهو ما اصطلح عليه بالمونولوج الداخلي.

ولا تقتصر رواية (كونشيرتو قورينا إدواردو) على هذه العناصر الفنية الأسلوبية فحسب، بل نجد في سياقاتها العديد من التقنيات الأخرى مثل الاسترجاع، والحكايات والقصص الفرعية المتأسسة على أسلوب التعشيق كما يسميه الأديب والفيلسوف الفرنسي (تزفتيان تودوروف) ويطلق عليه كذلك (القصة داخل القصة) أو (القصة الداخلية) أو (الحكاية الفرعية)، التي يتمثل دورها في تشبيك الشخصيات والأحداث وإضفاء نوع من المتعة على النص السردي والتي ظهرت في عدة فصول من الرواية بوظائف متعددة (بينما كنا نسير في دروب المدينة القديمة، يحكي لنا جدي عن الشوارع والبيوت، كيف اكتسبت أشكالها وأسماءها، مسجد عصمان، ميدان البلدية، سوق الحوت، سوق الذهب، سيدي خريبيش، جامع بن كاطو، زاوية العيساوية، شارع قزير، شارع مصراته، الصابري، المنارة، فندق قصر الجزيرة، الكنيسة الإيطالية، شارع عبدالمنعم رياض، البنكينة، كوبري جليانة، مصيف الملاحة، مفوضية الكشافة، مبنى الإذاعة ….. حكى لنا عن الولي الصالح سيدي مومن، الإفريقي الأسود الذي أنهى نزالاً عائلياً بين عائلتي دغيم ومخزوم دام سنين، وعن البحارة الذين يعرضون صيدهم للبيع في الميدان حتى اكتسب “ميدان سوق الحوت” اسمه منهم ثم انزاحوا عنه إلى البنكينة تاركين له الاسم.) (7)  

ويتواصل الأسلوب الحكائي الممتع الذي تعددت وظائفه حيث يقدم للمتلقي انطولوجيا مكانية مهمة وتوطينها في متن الرواية، وكذلك توثيق الأحداث والأمكنة والشخصيات بقصصها المعروفة والمسكوت عنها (حكى جدي عن الكنيسة اليونانية المطلة على فياتورينو وكتدرائية بنغازي على البحر والكنيسة الصغيرة في الصابري والفويهات والبركة والمقبرة المسيحية في جليانة، وعن صديقه البيباص “الراهب” الذي عاش في بنغازي أكثر من ثلاثين عاماً جعلته بنغازياً. حكى عن طرد اليهود ونهب أملاكهم سنة 1967 بسبب فلسطين ولجوئهم إلى بيوت المسلمين لحمايتهم من الغوغاء، حكى عن الغدر بهم والغدر بنا (8).

خاتمة:

جمعت رواية (كونشيرتو قورينا إدواردو) بين الواقعي الحقيقي والتخيلي الافتراضي من خلال استلهامها جانباً من مضامين الأحداث التي مرت بليبيا وإسقاطات بعض مجرياتها وانعكاساتها، واستطاعت توظيفها وتطعيمها فنياً بشخصيات وصور ومشاهد وحوارات تخييلية نسجتها بكل براعة وإتقان، منصهرة في خطاب روائي إنساني معبر بأسلوب واضح، انصبغ بلغة بسيطة شفافة وخالية من المفردات الغرائبية، مكنت السرد من استيطان أعماق المتلقي وتحريك عقله ووجدانه بكل فاعلية حسيّة وفكرية. وقد اعتمدت الرواية في كل ذلك على تنشيط الذاكرة السردية الثرية بمخزونها المعرفي واللغوي الذي انعكس في شكل عدة ثنائيات تنازعتها طوال سردها بين الذاتي الخاص والموضوعي العام، والإنسان الفرد والجماعة السلطوية الحاكمة، الزمن الماضوي العريق والزمن الراهن الحالي، والمكان الأثري والمكان العصري، والديني العقائدي المقدس والإرث الفكري المدنس وغيرها.

إلى جانب ذلك فإن الحبكة العاطفية المتمثلة في العلاقة الثنائية التي نسجتها الكاتبة بين “أمينة” و”ادواردو” زادت الرواية متعة وتشويقاً، وأكدت على الانفتاح الفكري والتعايش الديني المشترك اعتماداً على القيم الإنسانية النبيلة التي توحد الطرفين، وهي إشارة تحمل غايات تتجاوز العلاقة الفردية إلى أبعاد أخرى أكثر شمولية واتساعاً.

إن رواية (كونشيرتو قورينا ادواردو) تكشف لنا من خلال اعتماد موضوعها النصي على الأحداث السياسية والاقتصادية التي عاشتها ليبيا بأن أسلوبها السردي الواقعي قد استطاع التحرر من تصوير الواقع بحذافيره وتجاوز تفاصيله النمطية، بل سعت الكاتبة إلى بناء هيكل رواية أدبية يتأسس -بجانب ذلك- على مساحة كبيرة من الصناعة الإبداعية والتخييل الرحب، مثلت إضافات إبداعية مهمة تضمنتها تقاطعات كثيرة من المشاهد الروائية وتداخلت فيها العوامل الاجتماعية والنفسية والتاريخية.

كما أبانت الرواية من خلال أسلوب ارتباطها الشكلي فقط بالحدث الواقعي بأنها شاهدة عليه، وتستدعيه من رحم الماضي لبعثه في النص بحياة أخرى منحته دفقة أسئلة موضوعية تنبش ثنايا الذاكرة الوطنية واستدعاءاتها الفكرية المهمة، التي تبتعد فيها عن حدود الأنا والأخر لتصنع صوتاً صارخاً لمجتمع عانى جراء تلك الممارسات الواقعية الظالمة الكثير من المآسي والعذابات، وتطرحه للدراسة المعمقة في دوافعه وأسبابه وتأثيراته، وبذلك تقدم رواية (كونشيرتو قورينا ادواردو) نموذجاً للعمل الذي يدعو للبحث في بعض قضايا وطنية ماضوية بكل جوانبها، وإن ظلت تلك الرسالة ملفوفة في حكايات عاطفية لا تفتقد التشويق والإثارة.


هوامش:

(1)  كونشيرتو قورينا ادواردو، رواية، نجوى بن شتوان، دار عليسة ومنشورات مسكلياني، تونس، الطبعة الثالثة، 2023م

(2)  المرجع السابق نفسه، ص 49

(3)  المرجع السابق نفسه، ص 168

(4)  المرجع السابق نفسه، ص 135-136

(5)  المرجع السابق نفسه، ص 219

(6)  المرجع السابق نفسه، ص 99

(7)  المرجع السابق نفسه، ص 63-64

(8)  المرجع السابق نفسه، ص 65

مقالات ذات علاقة

“أبواب الموت السبعة” للروائي عبد الرسول العريبي

المشرف العام

آليَّات اشتغال التجريب على مستوى الشخصيَّة السَّرديَّة..  في رواية “علاقة حرجة لعائشة الأصفر

غادة البشتي

المرأة في كتاب القصص القومي لزعيمة الباروني – الجزء الثاني

المشرف العام

اترك تعليق