(إنّ من يأكل اللوتس من غير الليبين سينسى وطنه ويعيش
في ليبيا ليقضي بقيّة حياته يأكل اللوتس) الإلياذة – هوميروس
علي باني
– يحيا الدوتشي..
ينطلق الصوت الرخيم عبر الأثير، صاحبه لم يكن متأكداً مِمّن كان يستمع له، لا يهمه ذلك كثيراً طالما وصل صوته الى المارشال (بالبو)، والأهم من ذلك كله أن يكون راضياً عليه، يُمنّي النفس أن يجد صوته الرخيم في أذان المحظوظين ممن يشكلون دائرته الخاصة أو الدائرة الأكبر شيئاً من الأصغاء، لعلّه يحقق هدفاً أخفاه في صدره، وإن فضحته لهفتهُ أن يكون نقطة على محيط تلك الدائرة أو سنتمترات من نصف قطرها.
ينطق تلك الجملة بشغفٍ ورِقّةٍ تصل الى ما يشبه تقبيلها عشقاً، يخاف أن تتأثر حروف كلمة (الدوتشي) فتشكوه سِراً الى صاحبها هناك داخل قصره في روما..
حبٌ جعله يذهبُ يوميّاً الى الأستوديو في كامل زينتهِ، بسحنته البيضاء الناعمة، وشعره الكستنائي، وعينان بلون أقرب الى لون الياقوت الأصفر، يُقال بسبب وحم أمّه على فصّ خاتمٍ يضعه والده في سبابته.
يبدو سعيداً أو هكذا خُيّل لجيرانه كلّما رأوه صباحاً، بطوله الفارع وابتسامةً متصنعة يحيّهم بها على مضضٍ، فهو يراهم سذّجٌ، أغبياء يتوددون لعائلته لأسباب عِدّة، يأتي في مقدمتها مظهرهم الخارجي، إذ يحلو لأمهات المحلة نعتهم بأنّهم حُمر.. بيض”…
أمّا المضمون فلأنّ جدّه يُجيد القراءة والكتابة باللغة التركية والعربية وبعضاَ من الحساب، يُقال أيضاً أنه يتكلّم الأمازيغية، بالطبع لا يجب أن نغفل وضعهم المادي يكفي وصف الجيران لهم بكلمة (ديتّا) وأحياناً (تشُمّ).
لا يدري أحدٌ على وجه التحديد كيفَ أصبحوا أغنياء، يقول ميسورو الحال من الجيران إنّ جدّهم الأول (أنڤر) – أنور بالعربية – جاء من (ألبانيا) وحارب مع (درغوت)، هناك أيضاً من يُشيعُ أنّه كان قُرصانا ًيجوب حوض البحر الأبيض.
رجلٌ وحيدٌ لم يَكُن موافقاً على الروايتين، عادة ما يجلس منفرداً على (رُكّابة) الجامع، يلفّ جسده النحيل صيفاً في جردٍ يميل الى الاصفرار قليلاً، وشتاًء في (عبي) صُنعت من وَبر الإبل، يظهر وجهه من خلالهما في الحالين، وجزءاً من طاقية بهتَ لونها تحتها (مَعرقة)، بعينين ثاقبتين وحاجبين كثيفين، رُسمَ على جبهته تجاعيد بخطوط متوازية، في غضروف إذنه حلقة نحاسٍ صغيرة.
لديه رواية أخرى يراها صائبةً، يَقول إنّه سمعها من أبيه والذي بدوره سمعها عن جدته، التي تَدعي أنها كانت احدى زوجات (أنور) حين اختفائه عِدّة سنين في جبل (نافوسة) بعد أن فرّ هارباً بغنيمةٍ يُفترِضُ تقاسمها مع رفقاءه.
وكأنما يُوحي من طرفٍ خفي سبب سِعة العيش التي يرفلون بها.
لم يعره كثيرٌ من الجيران أذناً صاغية، فهم مشغولون بالبحث عن أكلهم، والمحظوظ منهم عليه العمل يوماً كاملا مقابل طعامه، يُعرف بينهم بأنّه:
“يخدم ببطنه” أو اختصاراً (كُرفي)..
بعضاً من هولاء كانوا عُمالاً في (سانية) العائلة، التي تقع خلف (الكردون) مباشرةً.، والده يؤكّد دائماً أنهم لا يصلحون الاّ كعمال فِلاحة، مُنطلقاً من قناعة عائلية متوارثة أصبحت مثلاً يستشهد به الجميع:
لا تقيم ليهم دولة، غير المِسحَة والجْدولَة……
*لوتوفاجي: أكَلةَ اللوتس شعبٌ غريب في الأساطير اليونانية يعيش على ساحل أفريقيا الشمالي.