قراءات

ذاكرة الميدان بين التأريخ والتوثيق

كتاب (ذاكرة الميدان) للكاتب والباحث شكري السنكي.
كتاب (ذاكرة الميدان) للكاتب والباحث شكري السنكي.

يواصل الكاتب والباحث شكري السنكي مشروعه الفكري بتوثيق وتأريخ المراحل المهمة في التاريخ السياسي الليبي المعاصر، حيث صدر له حديثاً كتاب «ذاكرة الميدان.. الإعدامات العلنية في أبريل 1977».

هذا المشروع الذي بدأه بإصدار عدة كتب، نذكر منها «منصور رشيد الكيخيا» في العام 2018 الذي يرصد سيرة هذا السياسي الذي جرى اختطافه من قِبل الأجهزة الأمنية لنظام القذافي العام 1993. وبعد مقتله، حفظ جسده في ثلاجة عثر عليها العام 2011، وأظن أن هذا أول كتاب ليبي وعربي في موضوعه.

وكتاب «ملك ورجال» في العام 2020 الذي يقدم فيه سيرة رؤساء مجلسي الشيوخ والنواب في العهد الملكي، وهم: «عمر منصور الكيخيا، وعلي صالح العابدية، ومحمود الحسين بوهدمة، وعبدالحميد إبراهيم العبّار، وعبدالمجيد الهادي كعبار، وسالم لطفي القاضي، ومفتاح عريقيب»، ويعد الكتاب الأول في موضوعه أيضاً.

وكتاب «ضمير وطن» في العام 2021 الذي يحوي ويتحرى سيرة عشرة أسماء وطنية قاومت نظام الطغيان، وهم: «فاضل المسعودي، ومحمد مصطفى رمضان، وأحمد إحواس، ومحمد علي يحيى معمر، وحسن عبد العزيز الأشهب، وعبدالحميد مختار البكوش، وحسن عبدالرحمن البركولي، وعبدالجليل سيف النصر، والسنوسي عبدالقادر كويدير، ونوري رمضان الكيخيا»، وهو الكتاب الأول من نوعه.

يصف الباحث كتابه «ذاكرة الميدان» بأنه «يسلط الضوء على حقيقة تاريخية مهمة لم يتناولها أحد من قبل بهذا التفصيل»، ويقصد تلك الإعدامات العلنية بحق بعض رموز الحركة الوطنية الليبية، وهم: «عمر علي دبوب، ومحمد الطيب بن سعود، وعمر الصادق المخزومي»، التي كانت لها مواقف نضالية في العهد الملكي، أملاً في بناء دولة القانون والحرية والكرامة، والذين استبشروا خيراً في انقلاب 1969 على أمل أن القادم أجمل، لكن سرعان ما تبخر هذا الحلم، حيث اتضح للبعض أن عهداً من الطغيان قد بدأ، إذ جرى تعطيل الدستور والقوانين، وإغلاق الصحف، وإلغاء النقابات المهنية، والاستفراد بالسلطة المطلقة دون حسيب أو رقيب منذ الإعلان الدستوري الجديد الذي ينص على «أن مجلس قيادة الثورة هو أعلى سلطة تشريعية، ويباشر أعمال السيادة العليا التشريعية، ووضع السياسة العامة للدولة نيابة عن الشعب، ولا يجوز الطعن فيما يتخذه المجلس من تدابير أمام أي جهة»، بمعنى آخر احتكر هذا المجلس كل السلطات: التشريعية والتنفيذية، بل والقضائية.

يذكر منصور بوشناف في تقديمه للكتاب مقارنة بين شنق دبوب وبن سعود والمخزومي في بنغازي وشنق عمر المختار في بلدة سلوق، ويصفهما بأنهما كانا «شنقاً لمستقبل ليبيا في الحرية والاستقلال والعيش الكريم، وإعداماً للقانون والمعرفة والتنوير والتحديث».

تعد هذه الإعدامات الأولى من نوعها في التاريخ الليبي بعد الاستقلال، حيث لم يحكم بالإعدام على أي معارض سياسي ليبي إبان العهد الملكي. لذا يمثل هذا الإعدام العلني، وترك الجثث معلقة عدة ساعات، وبثه في الإذاعة حدثاً مهماً ومفصلياً في تاريخ ليبيا، وفي ذاكرة الشعب التي لم تعرف هذه الشناعة إلا تحت الحكم الاستعماري الإيطالي.

ولكن ما هي الرسالة التي أراد نظام القذافي توجيهها إلى الليبيين كافة؟

يذكر السنكي أن القذافي أراد من إعدامات أبريل العلنية «تكوين صورة ذهنية Image لدى الناس، حتى يوحي من خلالها أنه مهيمن ومسيطر، ولا يقوى على تحديه أحد».

يقدم السنكي عرضاً موجزاً لكل الحركات التي استشعرت مبكراً خطوات النظام نحو الاستبداد والعنف والتفرد بالسلطة المطلقة من خلال القبضة الأمنية الحديدية التي صاحبت كل الأنظمة الديكتاتورية والشمولية، بهدف تكريس رأي ورؤية الزعيم الواحد الأوحد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وكما يقول الباحث، فإن غالبية هذه الحركات، المدنية أو العسكرية المناوئة للقذافي، كانت من قِبل أفراد أو مجموعات صغيرة تمكن القذافي من سحقها كمحاولة وزيري الدفاع والداخلية آدم الحواز وموسى أحمد، وقضية فزان، ومجموعة شباب الصابرية، وحركة عمر المحيشي في صيف 1975، بل ضرب أي شخص أو جهة يمكن أن تشكل تمرداً أو عدم انصياع كتقديم 21 صحفياً و12 إذاعياً إلى محكمة الشعب. كذلك الزج بمئات من رجال الفكر والأدب والثقافة فيما عرف بـ «الثورة الثقافية»، وصولاً إلى المواجهة مع الحركة الطلابية في الجامعات والثانويات.

ويذكر الكاتب حكم الإعدام الوحيد الذي نفذ خلال العهد الملكي العام 1955 بحق الشريف محيي الدين السنوسي، ابن عم الملك وابن شقيق الملكة فاطمة، وذلك لإدانته باغتيال إبراهيم أحمد الشلحي، ناظر الخاصة الملكية. والواقعة الأخرى تمثلت في حكم محكمة الجنايات ببنغازي العام 1965 بإعدام ثلاثة ليبيين ادينوا بتفجير أربع آبار نفطية، إلا أن الملك إدريس أمر بتخفيف الأحكام إلى السجن.

يسرد المؤلف بشيء من التفصيل محطات للحركة الطلابية في العهد الملكي كأحداث يناير 1964 التي قتل فيها بعض الطلبة، ومن بعدها في عهد معمر القذافي، من حيث تكونها ووعيها ومطالبها المشروعة، موثقاً نشراتها وإعلاناتها المطالبة بحقها في تكوين اتحادات مستقلة بعيداً عن سطوة النظام وأجهزته الأمنية ولجانه الثورية. وقد أدى هذا إلى الصدام بين الطلبة والنظام، الذي يتتبعه الباحث يوماً بيوم حتى صدور الأحكام ضد رموزها بالإعدام والسجن المؤبد وسنوات مختلفة.

اعتمد السنكي على روايات شهود العيان وبعض الذين شاركوا في هذه الأحداث. كذلك معارف وأصدقاء دبوب وبن سعود والمخزومي، لتقديم صورة واقعية وحقيقية لما تعرض له هؤلاء وغيرهم من الطلبة من أبشع أنواع التعذيب والتنكيل الجسدي، والحط من الكرامة دون التمتع بأبسط إجراءات القانون والتقاضي.

كما يسرد سيرة المطرب عمر المخزومي (عمر الصادق الخازمي) الذي أعدم رفقة المواطن المصري أحمد فؤاد فتح الله بتهمة محاولة تفجير ميناء بنغازي.

ويقتبس السنكي عبارة موحية ودالة لخطاب شهير للقذافي، حيث قال بالنص: «نعدم الأبرياء أحيانا بغرض إرهاب الجاني الحقيقي الذي قد لا يكون معلوما لدينا تلك اللحظة». وما تلا ذلك من إعدامات علنية في الميادين وأمام ساحات الكليات الجامعية وداخل الحرم الجامعي والملاعب الرياضية في السنوات المتعاقبة.

يحوي الكتاب الكثير من المعلومات والوقائع التي ربما تنشر للمرة الأولى أو نشرت، ولكن الكثير لا يعلمها، ومنها الحوار الذي دار بين القذافي وبن سعود عندما كان الأول في زيارة لتونس العام 1972، وكان بن سعود رئيس المركز الثقافي الليبي في تونس حينها، حيث كان لبن سعود رأي سلبي في التجربة الناصرية، وكان رد القذافي عليه: «يا محمد هذا الكلام يقود إلى حبل المشنقة»، وهو ما حدث فعلاً العام 1977.

اعتمد كتاب «ذاكرة الميدان» على أكثر من 30 مرجعاً ومصدراً، واحتوى على العديد من الصور والوثائق والرسائل وتقارير الجهات الأمنية، وقوائم أسماء المطرودين والمغضوب عليهم في الجامعات، من أساتذة وطلبة. كذلك حكم المحكمة بحق دبوب وبن سعود.

وتضمنت صفحات الكتاب قوائم أسماء القيادات الطلابية داخل ليبيا وخارجها، والاتحادات الطلابية الليبية في عدد من فروع الجامعات الأجنبية، وأسماء الذين صفتهم الأجهزة الأمنية في أوروبا. كذلك أسماء الذين حققوا وعذبوا في القضايا السياسية، والأعضاء العسكريين بمحكمة الشعب سيئة الصيت.

يعد هذا الكتاب وما سبقه من كتب، أشرت إليها آنفاً، مرجعاً مهماً للباحثين والمؤرخين الليبيين والعرب الذين يجهلون الكثير من الأحداث والوقائع السياسية التي مرت بها ليبيا نتيجة التعتيم الإعلامي الذي كان سائداً إما بالترغيب أو الترهيب. كما أن ما قام به السنكي في كتبه كلها، في استجلاء الحقائق وتوثيقها، يعد جهداً كبيراً في ظل غياب العديد من التقارير والنشرات الرسمية التي يمكن الاسترشاد بها في أى بحث علمي رصين، حيث إن الكثير من شهود العيان إما رحلوا عن الدنيا أو فضّلوا الصمت، بالإضافة إلى شح المكتبة الليبية فيما يخص إصدار ونشر المذكرات الشخصية للمسؤولين، سواء في العهد الملكي أو القذافي، مقارنة بما نشر في مصر والعراق مثلاً.

مشروع شكري السنكي يستحق الإشادة، لأنه جهد فردي، وكان حري بالمؤسسات البحثية ومراكز البحوث في الجامعات الليبية وكليات علم الاجتماع والتاريخ والعلوم السياسية أن تقوم بمثل هذه المشاريع، لتوثيق وأرشفة كل الأحداث والوقائع والتجارب السياسية والوطنية منذ نشوء الدولة الليبية حتى الآن، وهو العمل الذي تقوم به كل دول العالم تقريباً، لحفظ تاريخها وذاكرتها الجمعية.

كما أود الإشارة إلى نقطتين، الأولى: أن العهد الملكي، الذي استمر 18 عاماً، ليس عسلاً كله، حيث شابته العديد من العثرات والسلبيات التي تتطلب البحث عن أسبابها السياسية، وجذورها الاجتماعية والفكرية، ونتائجها التي كانت مقدمة لما حدث في حقبة القذافي، مع الفارق في المقارنة بين نظامي الحكم في العهدين السابقين.

أما النقطة الثانية فإن ما قدمه السنكي في كتبه جميعها قد يلقى بعض الناقدين أو المنتقدين أو المشككين أو المعترضين، وهذا من حق الجميع، ولهم أيضاً حق الرد بكتب موازية وموثقة، لدحض ما ورد من معلومات ووقائع وأحداث، لإثراء الحوار والنقاش فيما يتعلق بالحركة السياسية والوطنية في تاريخ ليبيا الحديث والمعاصر.


بوابة الوسط | 12 سبتمبر 2023.

مقالات ذات علاقة

ما فعلته رواية “قصيل”

محمد الزنتاني

الهروب من عرس الدم والعودة المحزنة

سالم العوكلي

الكلب الذهبي.. أم المسخ الليبي

المشرف العام

اترك تعليق