إخلاص فرنسيس | لبنان
مكسوة بالوجع، ماثلة في حضرة حاضر أضحى فيه الإنسان والمشاعر الإنسانية أرخص ما يكون، حيث وصلنا إلى الدرك السفلي من الظلم والظلام، بإبرة الحبّ وخيط السلام تكتب لترتق وجع أمّة، وبمشرط جراح تفتح غرغرينا وطن ومعاناة أكبر…
كلما قرأت سطرًا تجسّدت أمامي حياتي على مدى إدراكي وقبل إدراكي
أيّ وطن لم تنله الحروب، وأيّ شوارع لم تغسلها دماء الأبرياء، وأيّ وطن لم تُسرق أرغفة الأمل والحياة من أفواه أطفاله؟ من سرق حلمي، من زرع دربي بالغربة والاغتراب؟ من رفش التربة على الحبيب المشظى؟ من نثر أشلاء الصبايا على الجدران؟ من فتح الأبواب لتجتاح النيران أجسادنا؟ أليس هذا الجسد هو الوطن الممزّق؟ نعم أجسادنا وأعضاء الجسد هم بنو أمّي، من ومن والإجابة ليس فقط من ضغط على الزناد، بل من باع الوطن، ونكّل بالإنسان شرّ تنكيل؟
تتزاحم الأفكار والمشاعر، وتسبقني دمعتي إلى الورق، وأنا أجول في أروقة هذه المعمعة وفي ظلال الأحداث، أفقد رباطة جأشي، وأنا أقرأ اسم موسى بطل الرواية مرارًا، أترك عنان دمعتي تنحدر على شفتي، أنفصل عن ذاتي، أرى ملامحي أمامي على الورق، مختلطة سمرتي بتراب الأرض، وتاريخ ميلادي الضائع خلف الشفق وفي ذاكرة المدى، هنالك من خلف البحار، من وديان وطني، أسمع وقع أقدامِ مَن رحلوا، أتمتم بالاسم الأغلى موسى اسم أبي، أوجعني هذا الحضور في الغياب ، فأنا ولدت، وترعرعت في رحم هذه المعاناة، الكتابة بلسم وشفاء، نكتب لأنّنا نريد الحياة، نكتب لأننا نريد أن نشفى، والشفاء طويل الأمد، لأنّ ما نكتب هو جزء بسيط ممّا تحويه ذاكرة الوجع.
لعمري لن يمضي هذا الجيل إلّا وصرخت الأشجار كفاكم بترأجزائي لتكتبوا عليها قصص الموت، أعيدوا على مسامعي قصص الحياة علّني أنسى صوت الفأس، وهي تهوي على أغصاني، وأنسى صنيعكم إن كنتم بأخيكم الإنسان تصنعون هكذا، كيف لي أن ألومكم على صنيعكم بي؟ وصيتي ألّا تنسوا قصص الحّب والحياة، بينما يلوكني الوجع ويلوككم.
لماذا يبدو الحب أصفى على الجبهات؟
الرواية، القمع، الطبيعة المنتفضة على الواقع تغسل بالمطر جرح الأرض، القمع المتوارث، الظلم المنتج الأول للسفاحين، الشخصيات العامل النفسي الألوان وإلى ما هناك، أدق التفاصيل، رواية متخمة بالمشاهد مأساوية خاصة تجاه المرأة، هذه المرأة التي كانت الشخصية الرئيسية التي دارت الرواية حولها، وكأن التنكيل بها تنكيل بالوطن، لماذا يريدون تحجيمها ودفنها دفن صوتها في صندوق فكري تكبيلها بسلاسل ظلامية متوارثة، ولماذا هذا التهشيم والتحطيم، اذا كانت هي نشوة الحب الابدي”.
رحيل آريس معنى الاسم: الهلاك واللعنة والشقاء. العنوان عتبة النصّ ومنه الولوج إلى فكر الكاتب ورؤيته، فالعناوين كالأسماء لا يختارها الكتاب جزافًا، بل بكلّ عناية، وتكون النافذة التي يطلّ منها القارئ على جوارح الرواية أو النصّ الذي أمامه.
أريس إله الحرب ابن زيوس وهيرا، الجدّ الأكبر للأسبرطيين، في الميثولوجيا الإغريقية، الشجاعة والوحشية العمياء، والغضب والمجازر الدموية، يعتلي عربة تجرّها خيول سريعة، بأربطة ذهبية، يرتدى درعًا طويلة القامة ذات هيئة أنيقة ويقبض بيديه على رمحٍ ضخم، ويتخذ وقفة القتال، ويوجّه ضربات مميتة في كلّ الاتجاهات. هل مع رحيل آريس رحلت الحرب، أليست هي أمنية كلّ منا؟
من أخته في الرواية، تلك التي دفعه الجهل إلى قتل طفلها وقتلها بالرغم من صرخات الاسترحام غسل العار، وهل يغسل العار بسفك الدم، وكأن الطفل ذبيحة محارب قبيل ذهابه للحرب وهل تكتمل الأسطورة بعلاقته مع أفروديت إلهة الحبّ وإنجابه أربعة أولاد.
وعلى الرغم من كلّ الأهمّية التي حطي بها أريس في الشعر، ولكن الأمر لم يكن كذلك في الطقوس الدينية، ربما لأنّها كانت الأصعب حيث كان يتمّ استرضاؤه بتقديم محاربين شبان ذبيحة قبل الاشتراك في المعركة، قرابين للقتل بالموت. بالموت للموت من وإلى الموت.
لقد عالجت الروائية ايضاً، نقطة هامة ومشكلة نعاني منها في الشرق في بلادنا، عدم قبول الآخر والمختلف وكيف هذا متجذر فينا، الاختلاف غير مقبول على أشكاله وألوانه، السجن وإن كنت وأنا اقرأ الرواية اراها فيلم حي على الخشبة المسرح تونس أول ثورات الربيع العرب.. الجمهور السلطة التي تفتقت أزرار قميصها سمنة، من أكل ثورة البلاد وترك الشعب فقيرًا في بلاد الغني/ الموت الصراع الداخلي، المرأة معاناتها في خضمّ هذا الظلم، هي التي تدفع أكبر ضريبة حرب، من جسدها ومن روحها ونفسيتها، المرأة يمكن أن تتحول إلى وحش عندما تتاح لها فرصة الانتقام.
لو أتيحت لنا فرصة الحوار كما السجينين في سجن تونس لكانت بلادنا بأفضل حال، ولكن اعتدنا الحوار بالبندقية، وتركنا العقل للصرافة تتحمّل فينا، احتكمنا للدم بدل السلام، للنقمة بدل العدل، للقوة بدل الرأفة. هل نعيش كذبتنا الكبيرة في ربيع تحول إلى بحيرة دم، والجريمة الأكبر عدم تحمل مسؤولية القرارات التي نتخذها، ودائمًا نجد شمّاعة نعلّق عليها خيباتنا؟ الآخر أيًّا كان هو المسؤول وكأنّنا لسنا نحن من نملك قرار دولنا وحياة البشر فيها، ولماذا، لو عرف الإنسان أنّه بخار يظهر قليلًا ثّم يضمحل لترك البندقية، وحمل معوله والقلم، نقب الأرض الإنسانية وزرعها بألوان محبّته، ولكن يبدو أنّ الشر أسهل بكثير الخير .
“التاريخ قام على صراع الطبقات” ماركيز.
إلى كل الأطفال ضحايا الحروب؟
هل وحدهم الأطفال ضحايا الحروب، نعم هم وحدهم، من كانوا أمل الغد، أصيبت بالخيبة أحلامهم، حفاة إلا من تراب البارود، والملح يتلألأ في ظلمة الليل، وكأن الحياة تعاقب سقوط آدم وحواء وطردنا من جنة الله، امتداد ذنب الآباء فحصدنا نحن الجزاء، غرف تفتت فيها الأشياء، وألعاب الأطفال مبعثرة، ها هنا في الركن براويز من الصور تكسرت، وبقيت الوجوه تعانق الفضاء الفارغ، على الجدران آثار الرصاص، واسمع أقدام المعتدين يتنقلون من غرفة لغرفة، أسمع تنهد النساء، وبكاء الأطفال الهاربين من وجه الموت، ثياب مبعثرة، و ثقوب في جدران الروح، خللاً أصاب عيني، وفي وسط هذه المعمعة يطل علينا موسى وفي يده شريط فيديو، وقصة عشق ولحظة تأمل، يلهث لهفة خلف الحب، وكأنه أراد أن يهرب من الحالة ويصطاد الحياة من براثن الوجع، يهرب ليستعيد ما أفقدته الصدمات والحروب، بمعانقة امرأة، إلى قصة حب تنتشله إلى ابتسامة تربك روحه، و انتشلنا لبرهة من الزمن من مناظر الدم والقتل والتهشيم.
لقد استطاعت الكاتبة أن تقف على ما تعانيه النفس البشرية في الحرب وما بعده وقبله، المعاناة، وكيف يفقد الإنسان السيطرة على قراره، كيف تختل موازين الحكم والمنطق لديه، كيف يمكن أن يخدع بسهولة، بهواجس الوعود الطبقات الفقيرة لا تدرك مصلحتها، يا عمال العالم اتحدوا، أين نحن من الاتحاد
العنوان.
نأتي إلى النهاية والسؤال الأكبر بعد قراءة الرواية هل رحل آريس؟ هل تركتنا الحرب؟ ما هي مسؤوليتنا تجاه السلطات التي تمسك بزمام أمور بلادنا، إلى متى سنبقى وقود للحرب، والسياسة، ماذا فعلت الروائية في الرواية، أين الأمل والرواية تضج بالألم واليأس؟
ولكن الحب، الكوة التي ننتظر منه الخلاص، إن لم يتعلم الإنسان الحب لا خلاص من الحرب، فلنتعلم أن نسقط الراء، ونوقد قناديل الأمل، عله يأتي الإفراج عن هذه الامة من واقعها المر، ويرحل آريس الجاثم على صدور أبناء الحياة، ونتخلص من فئة لا يهمها الإنسان بقدر ما يهمها جشعها ومناصبها ومآثرها الشخصية. رحيل آريس.
* نشر بالعدد (39) من بمجلة (مدارات الثقافية) الورقية، يونيو 2023.