الدكتور محمد الدويب
عندما كانت الأمية تسيطر على أكثر من 90% من الليبيين كان لزاماً على من يريد أن يقدم طلباً لأية جهة حكومية أن يلجأ لدكّان الكاتب العمومي ويبوح له بطلبه ليحرّره له في ورقة رسمية ويضع أعلاها دمغة بقيمة 21 مليماً وهي الضريبة الواجب دفعها عند تقديم الطلبات، ولأن قريتنا الوادعة القره بوللي كانت صغيرة جداً في العقد السادس من القرن الماضي ولم يكن بها من الدوائر الحكومية سوى مركز البوليس وإدارة الناحية (فرع بلدي)التابعة لبلدية تاجوراء ومحكمة جزئية فقد كان بعض مشائخ و أئمة القبائل ممن تعلّموا في الكتّاب وحفظوا أجزاءً من القرآن هم من يكتب الطلبات للمواطنين الأميين ولقد حضرت مرات عديدة المرحوم الشيخ سالم عمر الراجحي (الإمام) وهو يكتب طلبات لأبناء قبيلته يوم انعقاد سوق القرية (الأحد) في دكّان الشاهي الذي كان يملكه عمّي مسعود الدويب رحمه الله تعالى، وفي وقت لاحق برز في قريتنا كاتب عمومي شاب كان يجيد صياغة الطلبات وأذكر أنني تعلّمت منه عبارات (السيّد المحترم، بعد التحية، الموقع أدناه فلان …، أتقدم إليكم بطلبي هذا آملاً الموافقة على …، وأملي وطيد في قبول طلبي ، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام) و هو الشاب الخلوق (عمران التوينسي رحمه الله) الذي كان حينها تلميذاً في المرحلة الابتدائية ويقيم في غرفة بعمارة(بالاس) اليهودي عند مدخل (كوشة على بشة رحمه الله) ويستقبل الزبائن في غرفته التي تحوي مكتبه المكوّن من جلد خروف مدبوغ يفترشه أمام طاولة خشبية صغيرة مستديرة الشكل و يحرّر بخطه الجميل في هذا المكتب المتواضع في هيئته عشرات الطلبات التي تتفاوت في أهميتها .
في وقت لاحق ازدهرت البلاد وعرفت قريتنا الآلة الكاتبة عندما فتح المرحوم الحاج محمد المصري دكّانه بالسوق وصار هو الآخر كاتباً عمومياً يطبع الطلبات بآلة الطباعة و يستمتع من يمر أمام دكانه بصوت الحروف التي تنقشها الآلة على الورق، ثم التحق بالمهنة شاب محترم آخر هو أحمد التونسي الذي استخدم أيضاً الآلة الكاتبة ولقد كان هؤلاء الكتبة يجيدون التعبير عمّا يريده صاحب الطلب عندما كان المواطن لا يعرف القراءة والكتابة، لكن بعد اختفاء الأمية تقريباً وارتفاع نسبة المتعلمين اختفت هذه المهنة وأصبح الشاب يضع قلم الحبر السائل أو الجاف في جيب سترته(الجاكيت) الخارجي ليوحي للناس أنه متعلم وصار كل مواطن يكتب طلبه و مراسلاته لوحده وظلّ الأمر كذلك في البلاد كلها حتى تبين لنا خلال السنوات الأخيرة لاسيما بعد ولوج الكثيرين إلى صفحات التواصل الاجتماعي مدى تدنّي مستوى لغة البعض وجهلهم بقواعد النحو والإملاء التي تُدرسُ في مرحلة التعليم الأساسي ولا نُعيب على الذين اجتازوا مراحل التعليم المتوسط بل قد نلوم الذين يحملون مؤهلات جامعية وقد نألم عندما نرى كتابات بعض الذين احتفلوا بمناقشتهم لرسائل ماجستير أو أطاريح دكتوراه وقد نأسف عند مطالعتنا لفقرات أو نصوص يحررها بعض الذين يحملون درجات علمية في مؤسسات جامعية والسؤال الذي يُطرح هو : ما هي أسباب هذا التدنّي في معرفة مبادئ اللغة العربية ؟ وهل العلاج هو العودة لفتح دكان كاتب عمومي أمام كل مؤسسة حكومية لتحرير الطلبات للمواطنين؟
لقد سبق لي نشر هذا النص ويذكرني به الفيس بوك كل عام لاسيما عندما أرى أحد الذين يزينون أسماءهم بلقب أكاديمي ووظيفة عليا وهو لا يستطيع كتابة فقرة واحدة تخلو من الأخطاء الإملائية والنحوية التي يجب ألّا يفعلها حامل الشهادة الابتدائية.