النقد

تقودني نجمة’ لمحمد الأصفر: مدن متشظية

من بنغازي الى درنة طرابلس طبرق الى أزقة وحواري وشوارع مدن ليبية متشابهة ومختلفة .. مدن يسكنها الليبيون والاجانب ..

تسكنها الفوضى العارمة والخراب ويسكنها أيضا التدين والرضا .. تكثر بها المساجد والمصلةن أكثر من أي مدن أخرى في العالم مقارنة بنسبة اعداد السكان .. وتكثر بها في نفس الوقت والأوان اوكار الفساد كما يسميها البعض حيث الخمور المغشوشة والمخدرات والدعارة .. لكأنها مدن امريكا اللاتينية في سنوات خرابها .. ولكأنها في نفس الوقت مدن الملائكة والتسامح والسلام والأمان .. إنها مدن ليبيا في تسعينيات القرن الماضي التي يجول بها بطل رواية ‘تقودني نجمة’ لمحمد الأصفر باحثا عن الذات وعن المعنى وعن الحب .. عن نص حقيقي ..

غلاف رواية_تقودني نجمة

كان الليبيون في تلك الحقبة قد خرجوا مرهقين من سنوات عجاف وحروب كثيرة خاضوها مجبرين مرهقين ويائسين من كل شيء .. مستسلمين لقدر لا يعرفون إلى أين يقود .. سار الليبيون ومحمد الأصفر عبر تلك الأزقة والحواري .. وسط تلك المساجد والأوكار.

كان الكثير من الغائبين قد عادوا إلى تلك الشوارع والحواري والأزقة من السجون السياسية ومن الحروب الأفريقية والعربية ومن المنافي .. وكانت الحدود الليبية قد فتحت على مصراعيها لكل الأشقاء والأصدقاء من عرب وأفارقة .. لكل أنواع التجارة المغشوشة والفاسدة .. وفجأة وجد الليبيون أنفسهم في أتون الرأسمالية بأشكالها المنقرضة من قرون ..

كان لصوص القطاع العام الذين أثروا في ظل قوانين الاشتراكية ومشاريع الاكتفاء الذاتي وعمولات السلاح والصناعة والتجارة بحاجة لقوانين جديدة تشرع لرأس مالهم غير الشرعي بالعمل والنمو .. فكانت الخصخصة وحرية التجارة واعادة الهيكلة وحقوق الانسان ومسايرة العالم والانفتاح عليه شعارات المرحلة .. كانت قوانين غسيل الأموال المنهوبة أدبيات المرحلة بلا منازع …

كان لرأس المال المنهوب وغير الشرعي والمنفتح بلا حدود ولا ضوابط الحق في التعبير عن حضوره بكل السبل.

يتابع بطل ‘تقودني نجمة’ كل هذا على مستويين متوازيين السوق ورأس المال وما يفعله بالبلاد ومصيرها عبر قصة المهاجر غير الشرعي المصري الذي يدخل معدما جائعا لينطلق وسط الفوضى الليبية نحو النجوم .. نحو ملايين الدنانير ثم نحو السلطة ليصبح ‘أمين اللجنة الشعبية لاحدى المدن (محافظ)’ والمتحكم في رأس المال والصعود الطبقي ويحتكر الوجاهة الاجتماعية وسلطاتها .

ويتابع في المستوى الثاني تحولات الوسط الثقافي وتطلعاته واحباطاته وتشوهاته وقدراته المهدورة في البحث عن الرغيف وإن تغول رأس المال وفوضاه يقابلهما بؤس الروح والأدب ..

بطل الرواية وهو الكاتب نفسه يبدو أشبه بالوتر المشدود بين هذين المستويين ..فهو العارف بفوضى السوق وتجارة الشنطة وكل خباياها وما مثلته من أمل لأعداد كبيرة من شباب يحاولون شق طريقهم وتأمين مستقبل مريح وحياة كريمة لهم ولعائلاتهم .. وفشل الالاف منهم في ذلك وما ترتب عنه من احباطات قادت ببعضهم الى المخدرات وقادت بالبعض الآخر الى الجهاد في افغانستان والتطرف .. ويعرف في نفس الوقت المثقفين الليبيين والكتاب ويعرف الكثير من العائدين من الحروب والمنافي وما يحملونه من أحلام لهم وللبلد، كما السوق يغرق الوسط الثقافي في فوضى وحمى الصعود وانجاز المشاريع الثقافية بالطبع .. ولكن وعلى عكس السوق التجاري لا ينجح غالبهم في إنجاز مشاريعهم فتظل كتبهم مخطوطات تنتظر الطباعة ومسرحياتهم تنتظر التنفيذ ولوحاتهم تنتظر المعارض لتكون النتائج المزيد من الإحباط واليأس والغرق في عدمية مرعبة..

تظهر هذه المدن في ‘تقودني نجمة’ للاصفر متشظية فلا نرى عبر الرواية مشاهد عامة لتلك المدن .. نراها مقطعة ‘بيت صديق .. مقهى .. رصيف .. فندق فقير ‘وترتسم لها صورا مختلفة ومتناقضة عبر أحاديث أشخاص الرواية عنها ..

تأخذ رواية ‘تقودني نجمة’ شكل المونولوج الطويل .. الذي يسمح بقول كل شيء بحرية تامة، فالكتابة عند الأصفر كانت دائما ممارسة للحرية التامة التي لايناور ويتخلى عنها تحت أي ظرف .. فالكتابة الروائية بالنسبة له هي التنفس والحياة ..ا نها فعله ورد فعله في التفاعل مع الواقع والحياة ..

يكتب الأصفر ‘تقودني نجمة’ بحرية تامة .. يعبر عن لحظته عن أحاسيسه .. عن أرائه .. عن رغباته واحباطاته .. لا يتقيد بشكل ولا يسمح لإطار بتأطيره والحد من تدفق منولوجه الهادر .. يسمي الأشياء بمسمياتها والأشخاص بأسمائهم الحقيقية . يدخل الوقائع اليومية في سياقه الروائي كما حدثت وبالتفصيل والأسماء واماكن حدوثها غير عابئ بشيء عدا حريته في القول..

ينقطع منولوج الرواية من حين لآخر .. يناقش الراوي قارئا مفترضا .. يعلل أحيانا ويبرر أخرى لأفعال أو أقوال وردت أثناء تدفق المنولوج.

يتهرب بطل ‘تقودني نجمة’ من مسؤولية حرية القول في مجتمع يحكمه القمع السياسي والاجتماعي بأن ما قيل فيها كان تحت تأثير حبوب التخدير والهلوسة .. فقد كان المجتمع الليبي يغرق في مستنقع السوق المنفلت الفاسد والمخدرات وانقسم أبناؤه بين ذلك السوق وبين المخدرات والجهاد في افغانستان والتطرف.

‘تقودني نجمة’ للروائي الليبي محمد الأصفر وثيقة ليبية ممتازة عن ليبيا نهاية القرن العشرين.

مقالات ذات علاقة

قصة.. ضربْ الأم

نورالدين خليفة النمر

علي الوكواك يفكك أسلحة ليبيا بالفن

منصور أبوشناف

(نداء ما كان بعيداً) لإبراهيم الكوني.. بحث عن جذر الهوية

المشرف العام

اترك تعليق