طيوب عربية

غيمة وحرائق وليل وشاعر

الشاعر المغربي محمد قنور
الشاعر المغربي محمد قنور

هذه القراءة العجلى، محاولة اقتراب من حرائق تشعلها قصيدة (ربما هي جملة واحدة، تصفّها قصيدة النثر في خطوات متوالية، كعادتها / هذي القصيدة/ تشاغبنا مذ بزغ فجرها وأعلنت شمس حضورها من خلال تجارب متباينة في عالمنا العربي الذي يتدلل ويمدّ أطرافه بين بحر أحمر وابيض ومحيط هادر، يتبرد من صهد الصحراء، ويناوش باخضرار غابات النخيل وضَوعِ روائح الحناء والقرنفل فتنة الصعود لجبال مهوى قلوب تعشقه).

هكذا تجرّني /قصيدة ومضة/ للشاعر المغربي محمد قنور، (والذي عرفته وقرأت شعره من خلال هذا الفضاء الأزرق)، تأخذني لفخ لطالما جربت خيانته، حين تلهيني براءته الظاهرة، عن هاوية مليئة بعقارب الكلمات المضمرة سمّا، أو حين تضحك وهي تمنحني عبق المعاني التي تدوٍخني من فيض نشوتها.

إذا هذه ثلاث قصائد/ ومضة، نصبت لي فخا، وأعترف أني دخلته آمنة مطمئنة، موقنة أن المعنى قريب، وأن قراءتي لن تأخذني بعيدا، ولكن يبدو أني أتغابى، أو أن السرّ كبير في هذي اللغة……..!؟

هل الكتابة مهنة اليأس؟! سؤالٌ مضمر وعلني في هذي القصيدة / النفثة التي هطلت من قلب الشاعر.

(أبدعُ غيمة ولودة

مهنة بلا وَقت

أتقاضى عنها

حَفنة لا بأسَ بِها

من يأس يهطل

.

الآن غيوم في عيني

وعينيَ في غيمةٍ)

أبدع غيمة ولودة…

هكذا يبدأ الشاعر قصيدته، هذي القصيدة/ الغيمة الولود، حيث مسارب تأويل تنضح من قطراتها وهي تنهمر من قلب الشاعر، إذا فعل المتكلم هذا المضارع الذي يشي بالحاضر حيث القصيدة وفيضها ولكن:

مهنة بلا وقت…

هي هذي الكتابة، بحر بلا ضفاف وصحراء تميد برمالها:

اتقاضى عنها

حفنة لا بأس بها

من يأس يهطل…

الشاعر في هذي الكنايات لا يضمر التخفي، هو يقول حقيقته.. يوشي الحزن برماد الغيمة، ويبكي رعدا / لا يناله من سوطه إلاّ الألم/الآن.. غيومٌ في عيني. الغيمة الولودة انسكبت، ولكن ثمة هذا الشاعر الذي تمتلئ عيناه بهذي الغيوم، الغيوم التي توشك أن تنهمر، ولكن…

عينيّ في غيمة..

في ذات الآن يحدث هذا الصراع، الذي مهنته الكتابة.. والذي لا يحظى إلا بهطل اليأس.. ولكنه يواصل هذا المشي والحفر حيث الغيمات الولود تتزاحم في قلبه، وحين تتزاحم الغيوم في عينيه، يكابر وجعه وينتشي لأن قصيدة تتشكل صورها ورويدا رويدا تقف هناك.. بانتظاره، بانتظار أن تنفتح تلك النافذة، تتسلل هي (غيمة ولودة)، لا تكتفي، لذا ستهطل وسيعاود الشاعر سيرته ويمسك بتلابيب الفكرة ليبدع قصيدة’/ قصة.. وتتذوق قارئة طعم الملح في هطول غيمة ولود.


النزوح؛ من أعمال التشكيلي الليبي رضوان أبوشويشة: أكر يليك على ورق مقمش، 100×70
النزوح؛ من أعمال التشكيلي الليبي رضوان أبوشويشة: أكر يليك على ورق مقمش، 100×70

في قصيدته (حرائق) يفتح الشاعرة كوٍةً نرقب منها ذاك الاشتعال، الذي حتما تضمره تلك الحرائق. .

(أنجزتُ الكثير من الحرائق

حدّ أني أحسُّ بدفءِ عظيمٍ

في رحلة الشّتاء،

 كما في الصّيف

إنها حفنة خطط

انّها كومة أحلام

متأججة.. متأجّجة)

ثمة شاعر يفتخر أنه أنجز كثيرا من الحرائق، لوهلة سيغريني الوضوح وأيضا سيزعجني، لأتساءل: هل ثمة جديد أيها الشاعر؟ هل ثمة ابتكار في صورتك الشعرية هذه؟

ولكن… كعادتها -القصائد- تغريني كي أنزلق بادعاء قراءتها لأنها سهلة بسيطة، ثم ينكشف الغطاء عن/ مغارة/ ولا أظن أنها ستكون مثل مغارة / على بابا/، فالقصائد عادة، رغم نعومتها الظاهرة، مليئة بعقارب التجربة وثعابين المشاعر المضطرمة، لذا.. ومثل تلميذة بلهاء سأسأل القصيدة: أي حرائق يقصد شاعرك؟ هذه التي (أنجز) الكثير منها…

أنجزت الكثير من الحرائق…

أتصور طفلا مشاغبا في يده عود ثقاب يدخل غابة عصف بها غضب الأرض التي ثقبنا غطاءها الحامي، فتركتنا عراة لربيبتها (الشمس) تلسعنا بسياط اللهب، وهكذا ثمة طفل غاضب يدخل غابة مكلومة تبحث عن دمعة تذرفها لتنعش عشبها اليابس، فإذ بشرارة يقذفها طفل يضحك، شرارة تغدو حريقا يلتهم العشب ويدوي صراخ الأم الغابة فتضحك سياط الشمس،…..!؟

ربما هذه أحد الحرائق الكثيرة التي يضرمها لهو شاعر، ثمة حرائق القلب، والروح والجسد، حرائق الأفكار الناشزة، حرائق يستمتع بها حتى أنه كما يقول:

حدّ أني أحسُّ بدفءٍ عظيم

سألاحظ هذي المفردات التي تشي بحال هذا الذي يقول: (أنجزتُ) الكثير من الحرائق.. هو الآن يغمرنا بفيض كرمه ويخبرنا عن فعل هذا المنجز الذي جعله (يحسّ) وبـ(دفءٍ عظيم).

وبين (أنجز – تُ) والتي من معانيها (أكمل شيئا بعناية فائقة _   بلغ به إلى غايته)، سأجد أن (أحسَّ) / شعورٌ يستولى على الشخص)، وصرفيا هو (فعل مضارع مبني للمعلوم منسوب للضمير _ أنا _ مرفوع، ومصرف من الفعل المجرد حسّ). إذا، ثمة شاعر- طفل يلهو يشعل الحرائق وينجزها بشقاوة الطفولة، ثم ببراءة يعلن أنه بعد أن أكمل عمله، ها هو: يحس بدفء عظيم، وهنا ثمة قارئة ترتبك (دفء – عظيم).

لأن هذي اللغة العربية (بحار بلا حدود)، ولأن ميزانها كتابّ محفوظٌ، لذا سأرتبك أمام هذا الوصف (عظيمٌ) الذي جعله الشاعر وصفا لذاك الشعور (بدفءٍ) الذي أحسّهُ واستولى عليه، في قاموس المعاني سأجد مرادفات شتى لهذا الوصف (عظيم) منها: (سنيٌّ- شريفٌ- فخمٌ- ماجدٌ- مهيبٌ- اغرٌّ-  مبجلٌ- نجمٌ- هائل …….).

ومن معانيه ايضا (سريٌ- مفخمٌ- كثيفٌ- نجمٌ) لذا سأواصل القراءة والبحث في المعني الكلي لقصيدة _ ومضة، يؤثث بها الشاعر لحظة عابرة ربما ولكنه يؤبدها، ربما يكون هذا الدفءُ (سريٌ) شعور خاص بهذا الطفل – الشاعر، وايضا هو دفء (سني رفيع) و(نجمٌ) كلما أشتاق الشاعر لطفولته نظر إلى الأعلى لينظر نجما يعرفه يلوّح بيده التي خطت التجارب في كفها ونحتت الأيام بعضا من وجعها هناك، وذاك الدفء- النجم – السري – الفخم، ينظر ويرى،

إذا متى كانت هذه الحرائق؟

متى أحسّ الدفء العظيم؟

تواصل القصيدة الكشف:

/  في رحلة الشتاءِ

كما في الصيف …/

ثمة اشتغال على خاصية التناص: / في رحلة الشتاء / كما في رحلة الصيف /..

توا ستحضر سورة من القرآن الكريم (سورة قريش – مكية – آياتها 5) حيث (رحلة الشتاء والصيف).. إذا هذه رحلة الطفل الشاعر، حرائق تضرم ودفءٌ يضم طفلا يتسلى حيث (حفنة احلام) و(كومة خطط)، وسيقفز سؤال مضمر وربما متجلٍ، لما أختار الشاعر هذا التناص (رحلة الشتاء والصيف).. حيث ألفة و شبع (من جوع ) وأمنٌ ( من خوف )، بينما حرائقه تترك  ( خططا) كانت معبرا للحلم مجرد ( حفنة) والأحلام بوابة الأمل والعمل ( كومة) ..إذا هذي الحرائق لا تشي إلاّ باليأس، ولا تعدً إلا بالفشل ، لكن ثمة قلب شاعر طفل يؤكد . 

متأججة.. متأججة؟

هل ظننت أيتها القارئة أن (خطط) طفل _ شاعر، قد تذبل أو تنطفئ، نعم، ربما يلتحفها سواد، كما يجلل الحلم الهباب، لكن هي مثل رحلة (الشتاء والصيف)، موعودة بالاكتمال، يظلّ أوار الأحلام يضطرم تحت الركام، ودروب الخطط تستقبل خطوات الطفل اللعوب، العاشق، الشاعر؛ فتمضي (الأحلام) آمنة ومطمئنة، حيث دروب الأمل والحب، إيلاف الدفء.


الزورق المدفون.. من أعمال التشكيلي رضوان أبوشويشة
الزورق المدفون.. من أعمال التشكيلي رضوان أبوشويشة

الشاعر محمد قنور يستهويه الاشتغال على التناص، أو ربما هي الطفولة الكامنة في قلبه كشاعر، تتوكأ الحكاية.

(يأتي المساءُ سريعا

كأرنب سباقٍ،

في مضمار الحياة

أسابقه.. فينتصر الليل،

 الليل الذي يداهمنا

بكامل وزنه الثقيل…)

في هذه القصيدة – الومضة، تقفز حكاية الأرنب الذي ظنّ أن السلحفاة البطيئة لن تنتصر، فينام، وهنا شاعر يخبرنا أن:

المساء (يأتي سريعا)

كأرنب سباقٍ

في مضمار الحياة..

وسيكون متن الحكاية – القصيدة هو هذا الفعل المضارع، الذي يحيلنا إلى (سلحفاة الحكاية) الدؤوبة المتأنية، تقطع دروب السباق بخطوات وانية ولكنها واثقة…

أسابقه…

ومن يسابق المساء إلا طفولة شاعر، طفولته التي تريد انتهاب الفرصة، ولكن

أسابقه /…

فينتصر الليل؟

الشاعر يحيل الصراع إلى حلبة أخرى، والمساء الذي كان (أرنب الحكاية المفاخر بسرعته والمتيقن بفوزه)، يفسح الدرب (لمتسابق) أكثر شراسة، وهنا تأتي المفارقة عن الحكاية – الأصل، وكأن الشاعر يضحك من سذاجتنا _ الطفلة، متسائلا: هل صدقتم الحكاية، أن سلحفاة تحمل فوقها عبء ( درقة) ثقيلة ستغلب أرنبا يقفز ويلهو ويقضم الأيام مبتسما!؟

لم يعد الصراع بين أرنب وسلحفاة، ولكن هي حكاية -إنسان-ة ما- قد يكون شاعرا -ة، كاتبا- ة، عامل نظافة أو خادمة، طبيبا -ة أو عالما-ة:

أسابقه،

فينتصر الليل 

والليل هنا بكامل حمولته الثقيلة من معاني السطوة والهيمنة والسواد الذي يغطي على كل لونٍ، والشاعر هنا يأتي بالفعل (ينتصر) الفعل المضارع والذي في متنه الحاضر والآتي،  هذا الليل _ نظير الطغاة، ولن يشفق على أحدٍ.. حيث تكتمل دائرة قصيدة

الليل الذي يداهمنا

بكامل وزنه الثقيل…

سلحفاة الحكاية لم تعد نائية – غائبة، تمشي وتمشي وتمشي كي تصل نهاية المضمار وتفوز بالسباق، انتبهت أنهم يتركوننا نتصارع، يرسمون لنا حلما الفوز، ولكن الفوز على من؟

الليل يداهمنا…_ أنت يا ارنب الحكاية، يامن يصفق لك الجمهور ليقينه بفوزك، جمهور يغيب عن حزنه وانكساره لينتشي بفوزك، ولكن لا بأس ثمة جمهور أكبر يحلم، لنطامن حلمه ونؤجج نهمه للصراع، صراع من؟ جمهور وجمهور؟

أنتَ وأنا، أنتِ وأنا، نحن ونحن، ثمة سلحفاة غبية تمشي وتمشي تنوء بحملها الثقيل وتحلم، وثمة أرنب أغبى، موقن بفوزه لذا سيقضم عشبا طريا وينام قيلولة باردة، لينهض فيركض خطوات واسعة وينتصر، ولكن يا للهول، السلحفاة سبقتني بخطوة وتخطت…ماذا، إنها تفوز، سيبدأ الصراع.. لكن ثمة شاعرٍ راءٍ، ينتبه لمكيدة مضمرة:

الليل الذي يداهمنا

بكامل وزنه الثقيل….

سيلتهم أيامنا ويمتص عرقنا، وسنجلس معا لنتذكر، بعد هزيمتنا معا، وننظر إليه / ذاك الليل / وهو يواصل قضم أعمارنا وليشرب عرقنا – دمنا، ونواصل الضحك والأمل، أن أرنب الحكاية حتما يخسر وتتنصر سلحفاتنا.

أظننا جميعا نعرف تلك الرؤية التي جاء بها (رولان بارت) عن موت المؤلف، وفي نظريات الأدب أن القارئ – القارئة، ينوء بحمل مسؤولية كشف المضمر فيما يقرأ. هكذا أجدني مع هذه القصائد_ الومضة، التي قرأتها بالوعي الخاص بي ، وتجربتي، والشاعر محمد قنور في محادثة حين سؤالي عن قصيدة (يأتي المساء سريعا) كتب لي: (إحساس بسيط بلحظة وجودية كونية… لحظة تحول الزمن وتحول الروح والنظرة معها، الخطط التي تكسرت في النهار وانتهى وقتها، وجاء الليل لإعادة بناء خطط وأحلام أخرى).

ولكن قراءاتي وما رأيت حين قراءتي، كانت من خلال تجربتي ووعيّ الخاص، ولهذا أقول:

إن القصائد أو أي نص، هو فخ لمن يكتبه، وفخ لقارئة مثلي، حين يغريني وتنكشف القراءة عن مضمر، وأيضا كما كتب لي (قنور): (نعم، النص مستقل عن كاتبه، وكذلك عن القارئ، لذا فإن زوايا القراءة والتأويل، تتعدد).

وربما.. لأن وعي وتجربة من كتب.. ليس هو وعي وتجربة القارئة.. يصبح النص كيانا خاصا، كما هذي القصائد التي نأت عن شاعرها، ونصبت لي فخاً.

ترى لمن كانت الغلبة…؟ أم هي حكاية لا تنتهي …؟

لذا كانت نظريات الأدب تتجدد، لأن الكتابة فعل ديمومة، ينهض مع كل قراءة…!؟


محمد قنور

محمد قنور، شاعر وكاتب ومترجم مغربي من مواليد مدينة آسفي، المغرب سنة 1988. أستاذ للغة الإنجليزية، يكتب باللغتين العربية والإنجليزية. وقد تلقى تكوينه الأنغلوفوني في جامعة القاضي عياض في مراكش، حيث تخرج في الدراسات والآداب الانجليزية سنة 2012، وبعدها درس اللسانيات الإنجليزية في جامعة محمد الخامس بالرباط.

حصل محمد قنور على عدة جوائز من بينها جائزة (أبيات مراكش) 2011 التي تديرها الشاعرة الفرنسية لوسيل بيرنارد عن قصيدةٍ بالانجليزية “Through My Face“، وجائزة (الرسم بالكلمات) في مدينة الإسكندرية بمصر 2011 والتي تديرها الدكتورة والشاعرة لمياء التاج عن قصيدة باللغة العربية “للّيل لونٌ أبيض كذلك“، وحصل على الرتبة الثانية في جائزة (الاختيار) بمدينة بور سعيد المصرية سنة 2012 عن قصيدة بعنوان “هروبُ اللّيل“.

في اللغة الإنجليزية، ظهر اسم محمد قنور في كتاب أنطولوجيا شعر شباب العالم وعنوانه “Via Grapevine” في قصيدة مشتركة مع الشاعرة الأمريكية آرون سامر لوبيز بعنوان “Your Hanging Hairشعرك المتدلّي“. حرّرت وأعدت الكتاب الشاعرة الإيرلندية بريجيت بوريزن عام 2012.

وفي الشق العربي، ترجم محمد قنور نصوص الباحث في الجماليات والدكتور المغربي محمد الشيكر إلى الإنجليزية في ثلاثة كتب احتفاء بالفن التشكيلي المغربي من إصدار وزارة الثقافة المغربية وهي “خمسون عاما من الرسم المغربي” وكتاب “مزنٌ.. نور وأرمدة” وكتاب “أيادي النُّور“. ونشر له بيت الشعر في المغرب كتاب “حل لغزي: القصائد الكاملة لستيفن كراين” سنة 2019، وهو ترجمة عن اللغة الإنجليزية إلى العربية لكل قصائد الشاعر الأمريكي ستيفن كراين. كما ينشر نصوصه وقصائد مترجمة للشعراء الذين يكتبون باللغة الإنجليزية ومقالات أدبية مكتوبة وأخرى مترجمة في العديد من المجلات والجرائد الوطنية والعربية والدولية.

مقالات ذات علاقة

جيهان سعدالدين: الأمل دائماً موجود والاستسلام للصعاب يؤدي إلى حياة محطمة تماماً

سالم الحريك

حديث مباح

المشرف العام

أبلغوا حبيبتي

المشرف العام

اترك تعليق