الإثنين, 3 مارس 2025
قصة

عندما اشتعل الرأس شيباً

من أعمال المصور الفوتوغرافي طه الجواشي
من أعمال المصور الفوتوغرافي طه الجواشي

أبصرت النور، وأنا التهم ثدي أمي، ثم اختفى الثدي، واختفت أمي، وصاروا يرضعونني بالرضاعة البلاستكية الممتلئة بحليب العلب، لكنه ليس له طعم حليب أمي، التي كانت تحملني على صدرها وترضعني، وعندما كبرت ودخلت المدرسة كان ثمة سؤال دائما يتردد على لساني   ويشغل فكري:

– أين أمي يا أبي؟

يرد علي في تجهم:

– أمك ماتت وعمرك لا يتجاوز السنتين.

وعندما حبوت، صحوت على زواج أبي من امرأة ثانية قاسية القلب، كانت دائما ترسلني للمحل، وعندما لا أذهب تشتكي لأبي عندما يعود من عمله، فيلسعني بتلك العصا الرفيعة التي بين يديه، في قسوة وغلظة.

مرت السنوات سريعة ومررت بتجارب عديدة في حياتي من الدراسة للعمل ثم الزواج ومصاعب الحياة، لكنني دائما أفتقد أمي. وعندما رحل أبي عن الدنيا عثرت في دولاب ملابسه على صورة قديمة لأمي (أبيض وأسود)، قلت متسائلا لعمتي العجوز:

– هل أمي ماتت حقاً يا عمتي كما قال أبي؟

أجابت قائلة:

– أمك يا بني لم تمت، ولكن بعد طلاقها من والدك تزوجت من رجل في الغرب ورحلت معه بعيداً إلى هناك وأنت طفل صغير.

بعدها ظللت أفتش عنها في كل مدينة وقرية في غرب البلاد وجنوبها، لكن دون جدوى! وجودها كان مستحيلاً حتى وصلت للعقد السادس من عمري، واشتعل الرأس شيباً، وكنت متزوجاً ولدي أبناء وبنات. وذات يوم جاءني هاتف من صندوق التضامن بمدينتي:

– أنت سعيد صالح سعيد؟ إنهم يطلبونك هناك في طرابلس لأمر في غاية الأهمية.

ما إن وصلت طرابلس حتى حجزوا لي غرفة  في فندق خمسة نجوم، وجاءني سائق وحملني إلى مبنى كتبت عليه دار المسنين، أدخلني الرجل مكتب المدير وقد طلب  هويتي وأجلسني الصالون، بعد دقائق تناهى الي مسامعي زغاريد وطبول ونسوة برفقتهن عجوز في غبطة غامرة، يقتربون مني كانت  ترتدي رداءً حريرياً.

اقتربوا مني نهضت قفزت واحتضنتها قبلت يديها ثم جثوت على ركبتي وقبلت قدميها، اختلطت الفرحة بالدموع والزغاريد، إنها أمي التي أفتش عنها من ستين سنة مضت، يا الله كم أنت قوي وقادر على كل شيء، كنت حاملاً صورتها، أسال القاصي والداني عنها حتى اشتعل الرأس شيباً.

أمي قالت لي بعد لقائها بي:

– عندما رحل زوجي الثاني، وجاءوا بي لهذه الدار سألوني أنت من الشرق، من طبرق، وهل عندك أحد هناك؟ قلت لهم عندي ولدي هناك اسمه سعيد صالح سعيد الوادي).

مقالات ذات علاقة

يعيش الحاكم…تعيش الحكومة

إبراهيم حميدان

طايح السـعد !!

رجب الشلطامي

رسالة..

حسين بن قرين درمشاكي

اترك تعليق