غيب الموت، اليوم الأحد، في القاهرة الروائي حمدي أبو جليل، صاحب روايات «لصوص متقاعدون» التي ترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، و«الفاعل» التي فازت بجائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 2008 وترجمها إلى الإنجليزية روبن موجر بعنوان «كلب بلا ذيل»، و«قيام وانهيار الصاد شين» التي فازت بجائزة بانيبال، وهي الجائزة التي فاز بها من قبل خيري شلبي وأدونيس ومحمود درويش.
تعد «قيام وانهيار الصاد شين» خليطاً من اللهجات، وكان أبو جليل يراها «مغامرتي اللغوية الأجرأ» وقد بذل المترجم الراحل همفري ديفيز مجهوداً كبيراً في الترجمة، وحدث تواصل كبير بينه وبين المؤلف، أثناء العمل على الترجمة إلى الإنجليزية: «تواصلت مع همفري لمدة 3 أشهر، وكانت أول أشهر من أزمة كورونا، قمنا باستغلال العزل وتواصلنا ساعة يومياً».
كتب أبو جليل تلك الرواية بلغة أشبه بلغة الكلام «بحيث يتحدث الناس في الرواية، بمثل ما يتحدثون في الحياة، وبالتالي فإن هناك مفردات لا تجدها إلا في أقصى جنوب الفيوم (مسقط رأس الكاتب الراحل) وكان نقلها إلى الإنجليزية أمراً صعباً».
«الصاد شين» هي الجنسية التي اخترعها الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، وأصولهم ترجع إلى البدو المصريين الذين هاجروا إلى ليبيا في سبعينيات القرن الماضي، والرواية تتبعهم على خلفية من تجربة الهجرة غير الشرعية إلى إيطاليا، والرواية تعتمد تكنيكاً جديداً على الرواية العربية ولغة تستلهم خليطاً من اللهجات العربية.
> حكايات
عالم حمدي أبو جليل وهو عالم البادية؛ حيث ولد في الفيوم في 16 أغسطس 1967، وحيث الحكايات البكر، وهو عالم برع حمدي أبو جليل في تناول تفاصيله بعمق شديد، ما جعله أحد أهم من كتبوا عن البادية وحكاياتها، وقد كشف في كتاباته ليس عن مواطن الجمال فقط، بل ووجه سهام كتاباته إلى بعض سلوكيات القبائل العربية المهاجرة إلى مصر.
عندما فاز أبو جليل بجائزة نجيب محفوظ عن روايته «الفاعل» ألقى كلمة تحدث فيها عن العجز قائلاً: «شكراً لتشجيع العجز، نعم العجز وليس التجاوز، التجاوز يعني القوة، يعني القدرة الجبارة على استيعاب قيمة جمالية وفكرية، ثم تجاوزها ببساطة، وتطور الكتابة ـ كما أفهمه ـ يعود في جانب منه إلى الضعف، العجز عن الوفاء لشروط النماذج السابقة، أقصد طبعاً النماذج العظيمة: دون كيخوته، الأخوة كرامازوف، البحث عن الزمن المفقود، الغريب، الحرافيش، رباعيات الإسكندرية، نصف حياة، كتاب الضحك والنسيان، تاريخ حصار لشبونة».
وقال أيضاً: «ربما التصالح مع العجز هو الذي يجعلني أنظر بنوع من الحسد والحسرة إلى أولئك الكتاب، الذين يخططون لإنتاج كتابة متجاوزة، ويطمحون لارتياد مناطق جديدة، هؤلاء أقوياء حقاً على الأقل بالنسبة لي، فمشكلتي التي ربما تدفعني للتوقف نهائياً عن الكتابة هي قصور قاموسي اللغوي عن التعبير عن فكرة أو حدث أو مشهد ما، لا داعي للتواضع، فاللغة بشكل عام قاصرة عن التعبير أو نقل الأشياء والأفكار بالشكل الأمثل والدقيق».
يعد هذا الكلام امتداداً لما صدر به أبو جليل روايته ذاتها «الفاعل» حيث قال: «مرات كثيرة أحاول كتابة قصة العائلة، وفي كل مرة أفشل، وها أنا أفشل أمامك الآن، الموضوع مُسلٍّ، مآسٍ وطرائف وأساطير، ولكنني أتردد وأخاف، أول ما يصعّب الموضوع أن عددها (يقصد العائلة) كبير، وبين كل فرع وآخر تباينات حاسمة، على مستوى اللون؛ فيهم البياض الأوروبي والسواد الإفريقي».
مداخل عدة يمكن النظر من خلالها إلى رواية «يدي الحجرية» آخر ما أصدر الكاتب الراحل قبل أشهر، لعل من أبرز هذه المداخل – كما يرى الشاعر جمال القصاص – التقصي السردي لتاريخ القبائل البدوية العربية وهجرتها من الجزيرة العربية إلى مصر، وبعض بلدان المغرب العربي، أيضاً يمكن النظر إليها من نافذة علاقة الشرق والغرب بسؤالها الشائك المتجدد ما بين الحين والآخر في أعمال سردية عربية، أو زاوية «تقنيات الحكي والسرد بروح المغني الشعبي ومسرح السامر» وهي تقنية تتناثر في هذا العمل ومعظم أعمال الكاتب السابقة.
> رثاء
كان عدد من الأصدقاء قد نعوا «أبو جليل» ومنهم الناقد الدكتور محمد بدوي الذي قال: «الموت مؤلم، لكن الأكثر إيلاماً الموت قهراً، وحمدي أبو جليل مات مقهوراً، لم يكن عدمياً، بل كان محباً للحياة، مشكلته أنه طلب الاعتراف ممن هم أقل منه موهبة»، في حين قال الشاعر مسعود شومان: «رحل عن عالمنا الصديق العزيز الكاتب حمدي أبو جليل تاركاً بصمة إنسانية وسردية ثرية فضلاً عما قدمه للثقافة المصرية من خلال عمله بالهيئة العامة لقصور الثقافة».
أصدر أبو جليل عدة مجموعات قصصية، بجانب رواياته، وكان كتابه الأول بعنوان «أسراب النمل» عام 1997 تلاه مجموعته الثانية «أشياء مطوية بعناية فائقة» ثم «طي الخيام»، كما أصدر كتابه التأريخي «القاهرة شوارع وحكايات» في جزأين عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
عمل أبو جليل مع الروائي خيري شلبي، مديراً لتحرير سلسلة الدراسات الشعبية، المختصة بنشر الفولكلور ودراساته، وعمل مع الروائي إبراهيم أصلان مديراً لتحرير لسلسلة آفاق الكتابة، حيث ظل يعمل موظفاً بالهيئة العامة لقصور الثقافة وتولى رئاسة تحرير مجلة «الثقافة الجديدة» الصادرة عنها.
الخليج، الأحد، 11 يونيو 2023