كان الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي يمثل، زمن وجود أحمد شوقي، أحد الأصوات العالية للكلاسيكية العربية الحديثة، باحتوائه القصة الشعرية، على نحو مخصوص، وهو فن لم يكن الشعر العربي القديم خاليا منه، اذ انه اساسا، ومنذ بداياته، كان شعر سرد.
ذلك أن القصة هي عماد القصيدة، غالبا في المرحلة (ما قبل الحضرية) المسماة (الجاهلية).
ولعل ذلك ناتج عن توحد الشاعر، من جهة، والحاح المعاناة عليه، للعودة إلى مجتمع، أو لخلق بديل اجتماعي يستمع إليه، فينتحل بدوره شخص الحكيم الاجتماعي، الذي يثبت أهليته العليا بالسرد واستخلاص الحكمة، من جهة أخرى.
كانت شخصيات الراحلة: الفرس والناقة، تحضر بمثابة بدائل مكافئة لشخص السارد نفسه، المتولي ضمير المتكلم بحضوره في الحكاية، موازنة لعالم انفراده، ويمكن رصد ذلك من خلال نموذجي طرفة بن العبد، وامرئ القيس.
عصر الأحياء والكلاسيكية الحديثة جعل من القصة الشعرية، أو المنظومة، منحى مخصوصا تقع مقاربته بوعي.
وهو يبدو محفزا بالمؤثر الأوروبي، ولكنه يحقق اجادته وتميزه من خلال الموروث، والمحيط.
السرد في الشعر لا يقتضي مجرد (حكاية)، وإنما (شخصيات) مستقلة عن السارد، وكذلك، (فضاء) يؤوي نفس الحكاية، وتفرد البناء، الذي تتنفس من خلاله رسالة الشاعر في سرده.
من أبرز من خاض تجربة (القصة الشعرية) حديثا، جميل صدقي الزهاوي. وله صدى في ليبيا تمثل في أحمد رفيق المهدوي.
تمثل تجربة القصة الشعرية انتشالا للزهاوي والمهدوي معا، من المباشرة، ومخاطبة الأحوال من خارجها، والمقاربة المباشرة والمخاطبة من خارج الموضوع، بحيث لا تنغمس الذات في انفعالات خاصة صادقة، هي ما عده الأستاذ التليسي عيبا، وهو عالم الأستاذ عباس العقاد النقدي، في تفنيد شاعرية أحمد شوقي.
للزهاوي قصة شعرية طويلة اسمها (فزان)، تسرد حكاية معلم اسمه (نديم) فرق الدهر بينه وبين زوجته (سعدى)، لأن الوالي العثماني، وقتها، أصدر ضده حكما عقابيا بنفيه الى فزان. وكان ذلك تقليدا في إنزال عقاب موجع بأحد ما. وكان ذلك المكان البعيد المقصين إليه يعني (مرزق) التي كانت عاصمة إقليم فزان بليبيا. ولعل هذا يفسر ازدهار الفن في مرزق، فضلا عن ترتب ذلك من كونها ملتقى قوافل.
الاستغراق الطويل في سرد الحكاية، وتمثل وقوع (نديم) ضحية للحكم المشبه لعصف أشعث، هو أهم مأثرة للزهاوي، يصحبها تمثل الطرف الآخر المستحضر لربط (نديم) بمنطق عذابه، وهي (سعدى) زوجته التي ستفقده، من دون أن تعرف متى سيعود.
هي معاناة شبه رومانسية. ينضم إليها المهدوي لاحقا، بأن يجعل صبيا اسمه (غيث) مجسما للمعاناة شبه القدرية، العاصفة، وهذا العصف من شخصية صبي هو ما يجعل المهدوي يطل عفويا، على عالم رومانسية ثورية. كان يمكن في ظروف ثقافية أفضل أن تجره إلى تكوين أمثلة أخرى لها. وكانت هذه التجارب، التي تأخذ مثل هؤلاء الشعراء، بعيدا عن أسر أطرهم السابقة من المعهود الشعري، تدرجهم في شعرية محكومة، بوعي، وبلاوعي، بثقافة عصرهم، ومخزون تمثلهم لموروثهم وقراءاتهم، في شعرية أخرى، لا تسطح الشعر إلى مجرد كلام له نظام وزني، قادر أحيانا على احتواء طرائف، بدلا من تخليق عالم شعري صادق، يستخلص لمحتواه حيوية فن تسمو على حدود نثرية تزيف هويتها.
..
أمر ما، لعله قلق البيئة، كان يسحب المهدوي إلى ممارسة الشعر بوصفه نوادر، ومسامرات.