أنفق الوقت الكثير في قراءة النقد الأدبي، سواء في الصحف أو المجلات، أو الكتب، أو في المواقع الإلكترونية، وأجد فيها الكثير من المتعة العقلية الصرفة، وخاصة وأنا أتأمل تلك الحوارات العقلية، فكل كتابة نقدية نوع من الحوار، والقراءات التحليلية للنصوص التي يتناولها أصحابها، أجد أن هذه النصوص النقدية توازي في إبداعيتها النصوص الإبداعية، شعرا أو نثرا.
وتحظى المجلات النقدية عناية خاصة عندي، وأحرص على متابعة كل جديد منها، وخاصة مجلتي فصول (المصرية)، وعالم الفكر (الكويتية)، لما تشتمل عليه هاتان المجلتان من التزام بمعايير النقد الأدبي الأكاديمي التخصصي، باعتبارهما مجلتين محكمتين، فأقرأ كل موادهما بلذة كبيرة، على الرغم من أنني أتحاشى- وعن عمد- كتابة النقد الأكاديمي بهذه الصورة لعلمي أنه لا يفيد سوى فئة قليلة من الدارسين.
في الفترة الأخيرة التي امتدت إلى ما يقارب عاما كاملا قضيته مع العدد الأخير الواصل لفلسطين من مجلة فصول، العدد (107- ربيع 2022) المخصص للاحتفاء بالناقد المصري الراحل جابر عصفور (31 ديسمبر 2021)، وجاء العدد تحت عنوان “جابر عصفور… الرحيل والإقامة”. هذه هي المرة الثالثة التي أقرأ فيها عددا كاملا من مجلة نقدية مخصصا لشخصية أدبية، إذ سبق لمجلة فصول نفسها أن أصدرت عددا خاصاً حول الشاعر العربي السوري أدونيس، وأطلقت عليه “الأفق الأدونيسي”، كان عددا زاخرا أيضا، ومعرّفا بالشاعر، ما له، وما عليه، كما أن مجلة الشعراء الفلسطينية أصدرت (العدد 4- 5، ربيع وصيف 1999)، وقد خصصته بالآلية نفسها تقريبا للاحتفاء بالشاعر محمود درويش، وجاء أيضا عدداً ضخما تحت عنوان “محمود درويش المختلف الحقيقي”.
لهذه التجربة من النقد الأدبي أهميته الكبيرة، إذ تبين للقارئ والباحث أهمية هذه الشخصية أولا في مجالها، وأثرها في الآخرين، وعلاقاتها المتشابكة في البعدين الشخصي الاجتماعي، والشخصي السياسي، وتقدم المحتفى بهم على أنهم مشاريع ثقافية ناجزة ومكتملة، وإن كان بعضها على قيد الحياة، كأدونيس، ودرويش عندما احتفت به مجلة الشعراء، كما أنه نوع من التكريم المستحق لهؤلاء المبدعين، كما أنه عامل محفز لدراستهم دراسات مغايرة، تكشف عن تلك العوامل التي جعلتهم عناوين بارزة في الثقافة العربية والعالمية، ولا يخفى أيضاً أن هناك العديد من المبدعين الذين يستحقون تسليط الضوء عليهم بالطريقة نفسها، وأشار الدكتور جابر عصفور إلى ذلك، وهو يناقش دور مجلة فصول النقدية، واحتفائها بالشعراء المصريين أو بالشاعر أدونيس نفسه، واعتزام المجلة تخصيص بعض أعدادها عن آخرين.
يتألف هذا العدد الضخم من مجلة فصول من (677) صفحة من الحجم الكبير، ويضم بين دفتيه دراسات، وقراءات، ومقاربات، وشهادات، وحوارات، ورسائل، وسيرة ذاتية، ومادة تحت عنوان “صوتان”، وبذلك يكون العدد قد اشتمل- عدا مفتتح رئيس التحرير الناقد حسين حمودة- على (78) مادة نقدية متنوعة الشكل والمحتوى، كلها تناقش تجربة الناقد جابر عصفور المميزة الممتدة زمانيا ومكانيا، كما هي ممتدة في المواقع الحساسة التي وجد فيها، والمناصب التي تقلدها، ومتنوعة في إنتاجاتها المعرفية وإن تمحورت كلها في العمق على أنها أعمال نقدية، في النقد الأدبي، بتنوعاته ومدارسه ومناهجه، قديما حيث التراث العربي، ومعاصرا حيث النقد العربي، والنقاد العرب، وتجاوزت ذلك إلى النقد الأجنبي، وترجمات عصفور الشخصية خارج المشروع القومي للترجمة لكثير من الكتب النقدية.
تعطي هذه المواد تعريفا جيدا بالناقد الدكتور جابر عصفور، وقدمته بصوره المختلفة وأدواره المتعددة، ويستطيع القارئ أن يستخلص لهذه القامة المصرية الشامخة صورة وافية؛ في إنجازاته العلمية، وبصورته مثقفا عاملا للتغيير في المجتمع، أو إداريا ناجحا، وعلما بارزا له حضوره المهمّ في حركة الثقافة العربية بتعدد ساحاتها وعلى اختلاف منابرها. واستطاعت الحوارات معه أن تكشف عن جوانب من شخصيته الإنسانية وعلاقته مع الآخرين، لاسيما المخالفين له، وقد عمقت الشهادات التي كتبتها نخبة من الكتاب العرب والمصريين هذا الجانب في شخصيته رحمه الله.
وأبرز ما وضح من صورة الدكتور جابر عصفور صورته كمثقف، يستخدم الكتابة وأدوات الثقافة من أجل ما يؤمن به من قناعات، سواء أكانت قناعات ضد السلطة الحاكمة الدكتاتورية أم كان ضد التعصب في أشكاله كافة من المتدينين واليساريين، ومعاركه مع الأصولية الإسلامية، وخاصة الأزهر الشريف، والإسلام السياسي ممثلا بحركة الإخوان المسلمين، ومعركته الأدبية مع الناقد عبد العزيز حمودة صاحب كتاب “المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك” ومناقشته له، والرد على طروحاته التي وصفها بغير المتعمقة، إذ لم يطلع حمودة على ما كان من الواجب الاطلاع عليه من أجل أن يكون كتابه رصيناً كما جاء على لسان الدكتور جابر في أحد الحوارات.
في هذا العدد من فصول يتأكد دور عصفور في ريادته حقل “نقد النقد” في مناقشته لأفكار أستاذه طه حسين، في كتابه “المرايا المتجاورة- دراسة في نقد طه حسين”، وعلى الرغم من أن د. جابر يكنّ حباً واحتراماً كبيرين لطه حسين إلا أن ذلك لم يمنعه من مناقشته ومخالفته في بعض آرائه.
ومما أثار انتباهي في هذا العدد حديثه عن الرداءة، وعن “ديمقراطية النقد”، ونيته كتابة كتاب عن الرداءة، يقول في أحد حواراته: “كنت قد تأثرت منذ سنوات بعيدة بجملة قالها الناقد الإنجليزي الشهير ريتشاردز . الجملة تقول: إن دراسة الرداءة لا تقل أهمية عن دراسة الجودة بل هي أصعب”. لم يكتب الدكتور عصفور عن الرداءة، وكتب بدلا عن ذلك كتابه “في محبة الأدب”.
ذكرني هذا الموقف بما فعلتُه بخصوص مناقشة أعمال رديئة، سواء أكانت في الشعر أم في النثرـ بل في النقد نفسه، فثمة رداءة نقدية كذلك، وبما كتبته في كتاب “بلاغة الصنعة الشعرية” عن أن الرداءة ضرورة إبداعية، بل إنني رفضت تدقيق العديد من الكتب، لأنها لا تصلح للنشر، ولم أجزها، فكتبت مرة لصاحبة الكتاب في رأس واحد من تلك المخطوطات التعيسة ما معناه: أرجوك لا تزيدي الرداءة في السوق، لكنها طبعت الكتاب، ولم تسمع النصيحة.
على أية حال، أخذت أستمطر الأفكار لأعيد الكتابة في هذا الشأن. على الرغم من أن الكتّاب أصحاب الكتابات الرديئة، من كتبت فيهم غضبوا مني، وقاطعوني لكن لا بأس، عليك أن تقول الحقيقة صارخة متحدية، لعل هؤلاء “المنفوشين” الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا في الأدب يرعون، ويكفّون عن الكتابة البليدة، وكما قال د. جابر “هناك صور فظيعة من الرداءة ينبغي أن تكشف عنها”.
أما عن ديمقراطية النقد فيرى د. عصفور أنها تتجلى في أن كل كتابة نقدية مهما كانت هي قراءة لصاحبها، غير منغلقة، وغير نهائية، فلا شيء قاطع في عالم الأدب، كما أنه يرى أن من الديمقراطية النقدية عدم إكراه الناقد على كتابة نقدية ما، بل يترك الناقد لاختياراته ولقناعاته، كما أن على “الناقد أن يكون محايدا، ويقبل كل الأشياء، ويحترم اختلافها عنه، ويقدر القيمة الأدبية فقط”. ويرى الدكتور جابر أن “المعارك الأدبية” بين النقاد مظهر من مظاهر حيوية الأدب، ولا بد من أن تظل موجودة، يقول: “وأهم ما تضيفه هو فكرة الحوار والاختلاف الراقي الذي لا يصل أبدا إلى الاشتباك والصدام”.
ويمكن للمرء أن يُدخل في مفهوم “ديمقراطية النقد” ما عبّر عنه د. جابر في أهمية أن يخلق كل جيل من الأدباء نقاده معه. يقول في ذلك: “إن الأجيال الجديدة لا تحاسبنا أننا نهمل إنتاجها، وأن عليها أن تفرز نقادها”. لأن هؤلاء النقاد الجدد أقدر على فهم الكتّاب من الجيل نفسه، لأن الجيل القديم من النقاد ذوو حساسية مختلفة قد تؤدي إلى ظلم الكتاب الشباب، عدا أن الدكتور جابر عصفور صرح أنه يقرأ للجيل الجديد، ويكتب في إنتاجاتهم الأدبية، ويتحمس لبعض تلك الكتابات، بل إنه يقول: “علينا أن نمهلهم حتى يجربوا، ونصبر عليهم حتى يقدموا ما يكفي من الإنتاج الإبداعي. في تلك اللحظة ندخل في حوار قاسٍ، ولكن لا تجيء إلى العود وهو أخضر لم ينضج بعد وتمسكه بعنف. سوف يُقطع، انتظر حتى يكبر وتظهر احتمالات نموه، بعد ذلك إما أن نجتثه، أو نفسح له المجال”. هذه رؤيا في غاية الحث على التطور، بل تقدم للكتاب الشباب فرصا ذهبية للتطور الطبيعي، من خلال هذا الجو الدافع على الكتابة بأريحية، وكأن د. جابر يضع المسؤولية على عاتق الكاتب نفسه، وليس على عاتق النقاد. وفي هذا احترام كبير لرؤاهم وكتاباتهم ومشاريعهم الثقافية إن كان لأحدهم مشروع ثقافي، وليسوا مجرد كتّاب هواة.
يكتشف القارئ لهذا العدد التطور الحاصل في فرع النقد الأدبي، وفي مفاهيمه الأساسية، ودخول أجناس إبداعية ضمن اهتمام الناقد الأدبي، كمناقشة الإبداعات التلفزيونية: المسلسلات، والمسرحيات، وما أطلق عليه د. جابر “الأدب التلفزيوني”، ويدخلها في مفهوم “القص”، ليعدّ هذا العصر “زمن القص” بهذا المفهوم العابر للسرود التقليدية من رواية وقصة قصيرة وسيرة ذاتية، وبذلك يقدم هذا العدد بانورما نقدية على امتداد زمن طويل من عمر النقد الأدبي والنقاد.
جعلني هذا العدد أقف عند اختلاف التصنيف في المادة وخاصة في ثلاثة مصطلحات: “القراءة، والمقاربة، والدراسة”. فالدراسة ذات مفهوم محدد، موضوعي، يسير حسب قواعد وأصول شكلية ومنهجية واضحة، إلا أن بعض المقاربات كان لها هذا التوصيف، وحتى القراءة النقدية، فالكاتب عموما لا يلتزم بإيراد مراجع ولا يحرص على التوثيق في كتابته للقراءة النقدية وإن كانت موضوعية وتسير حسب منهجية نقدية اصطلاحية معينة إلا أنها تجنح نحو الرأي الخاص بكتابها في العمل الأدبي، لتبدو شكلا من أشكال النقد الانطباعي، وتأتي المقاربة بناء على هذا التوصيف الذاتي بين القراءة الذاتية المؤسسة على فكر موضوعي منهجي وبين الدراسة التي تنحو إلى العلمية والموضوعية الصرفة، فقد يلجأ كاتب المقاربة إلى التوثيق والاسترشاد بآراء غيره، لكنه غير ملزم بالانضباط المنهجي في الكتابة النقدية.
بالمجمل، فإن هذا العدد من فصول، وبما اشتمل عليه من مادة، ومنهجية في بناء العدد، يسدّ ثغرة كبيرة في التعريف بالدكتور جابر عصفور بوصفه أحد النقاد الكبار في الوطن العربي، الحاصل على المرتبة الأولى على جميع أقسام اللغة العربية في الجامعات المصرية- في حينه- وليس فقط على قسم اللغة العربية في جامعته التي تخرج فيها. ثم ممارسته التدريس الجامعي والإدارة، وكان وزير ثقافة، وأحد صناع السياسة الثقافية في مصر، وإنجازاته باقية شاهدة على ما لهذا المثقف الكبير من أثر في الحياة الثقافية، وما تمتّع به من شجاعة كبيرة.
لقد كانت آراؤه وإنجازاته محل خلاف بين النقاد أولا، كما حصل مع كتابه “زمن الرواية” أو معركته مع د. عبد العزيز حمودة، وكذلك ما حدث معه وعلاقته المتوترة بالاتجاه السلفي ثانياً واعتراضهم على بعض الكتب التي تمت ترجمتها ضمن كتب “المركز القومي للترجمة”، وما كان يقدمه هؤلاء من أعضاء مجلس الشعب من اتهام للدكتور جابر عصفور التي قد تصل أحيانا إلى “التكفير”، وما قد يجره ذلك من جرأة الإقدام على التعرض لشخصه بالإيذاء أو القتل كما حدث مع غيره، كنجيب محفوظ وفرج فودة على سبيل المثال، لكنه دائما كان مؤمنا- كما قال- “بأن العمر واحد والرب واحد”، و”الأعمار بيد الله، ومن خاف شُلّ فلن يكتب ولن يفعل أي شيء في الحياة”. هذه يجب أن تكون صورة المثقف الحقيقي الذي كان يمثله الدكتور جابر عصفور، رحمه الله رحمة واسعة.