كنت قد شرعت في كتابة رواية الببغاوات عام 2006 ثم توقفت،
ومنذ عام تقريبا عدت لها محاولا انهائها ومغادرة اطلالها، هذا فصل منها.
مسينا الوديع، مسينا الوديع،
هتفت له وهو يقبل نحوي مستبشرا فرحا برؤيتي هنا بلبدة العظمى، كان قد خلع رداءه الكهنوتي واقبل نحو لبدة والآن نحوي بهيئة رجل عادي، يرتدي ملابس القرزاوين، القميص الابيض والعباءة البيضاء القرزاوية الصنع وقبعة بيضاء من قماش، عانقني فرحا فقلت له مباشرة “الأخ مسينا في بلاد الشيطان” فضحك وقال “بحثا عن الملائكة”.
كان “مسينا الوديع ” كما تعرفه قرزة كاهنا شابا، ولد وتربى في بيت قرزيل لحورية من الحوريات، ربته الحوريات والكهنة ورضع حليبا قرزيليا صافيا، درس تعاليم كهان قرزيل منذ طفولته، ثم تدرب على فنون القتال ولم يتفوق فيها فحوله الكهنة للزراعة والعناية بالنباتات، التي أحبها وتفنن فيها، يقول البعض ان تأثير امه التي كانت قريبة منه ولم تتركه تماما للمربين الكهنة جعله يكبر هكذا وديعا طيبا، عاشقا للزراعة، حتى بدا أقرب للام من الأب المقدس وتعاليمه الحربية القاسية.
كان مسينا ابن قرزيل المختلف عن كل ابنائه الأخرين، فلم يكن رجل حرب ولا عنف بل كان ودودا وديعا ولهذا نال حب ورضا كل القرزاويين البسطاء وثقتهم، على عكس اخوته الذين كانوا رجال حروب وغزوات ولذا كان الناس يتجنبونهم ويخشونهم ويخافون حتى الاقتراب منهم.
ابناء قرزيل مثل حورياته، هم ابناء تحمل بهم امهاتهم داخل المعابد المغلقة، لا يعرف اباؤهم بالتحديد فقد يكون الأب كاهنا عاشر احدى الحوريات وقد يكون تاجرا عابرا استضافه الكهنة ومنحوه حورية ليلة او ليلتين وقد يكون قائدا رومانيا من فرقة اوغسطا، حل بالدير ضيفا ومستطلعا لما يجري بقرزة ومعابدها ودور ساستها وتجارها، لا أحد من الابناء له اب محدد، فكلهم ابناء قرزيل وكفى، بالضبط كما حوريات قرزيل. كانت ام مسينا من الحوريات الجميلات، وكانت تتمتع بمكانة متميزة بين كهنة وحوريات قرزيل، عرفتها وهي حورية كبيرة السن منذ سنوات قبل ان تتوفى، كانت حين عرفتها معلمة حوريات، تعلمهن الموسيقى والرقص وقراءة الطالع، وربما فنون الاغواء ايضا، كانت تظهر في اعياد ترقيص التيران بزينتها الكاملة جميلة ومهابة، تقف الى جوارها دائما خادمتان، كانت حورية خمرية البشرة، طويلة وتميل للبدانة قليلا، تلمع عيناها الواسعتان ذكاء وفطنة.
انت هنا منذ زمن؟ تسأل مسينا
ليس طويلا اجبته، وانت ما الذي تفعله هنا؟ قلت له.
ما عادت قرزة تناسبني قال، ثم اطرق صامتا للحظات
ما عادت تناسب احدا، قلت مؤكدا لكلامه.
انها تتحجر، قال وزفر حزينا
تتحجر، نعم إني ارى ما ترى، لكأني بزرعها وضرعها، بتجارها وفلاحيها ورعاتها، وجندها، وامرائها، ذكورها واناثها، يتصلبون حجرا، بدا رخوا كطمي “سوف اجين” ثم جف وتصلب، ربما لم تزل به ليونة من الداخل ولكن اليباس يتغلل ليغدو كل شيء من حجر، لتبدو تماثيل “اجين” أقرب للحياة من اهل قرزة وحكامها.
نعم، صدقت، انت ترى ما ارى، انت الشاعر وانا الكاهن، ها نحن نتفق تماما، على مصير قرزة. قال وقد لمعت عيناه بذكاء وفطنة،
والحل؟ ما الحل يا مسينا الوديع؟
الحل فينا يا فيديليوس، انا وانت، ان قدرا جمعنا هنا لذلك، انا متيقن من ذلك، ما هو ذلك الحل، لا اعرف الى الآن بالتحديد ولكنه فينا، انا وانت، قال وضغط بإصبعه على صدري وكأنما يزرع نبتة فيه.
كنا نقف امام مشرب ابن هوارة الذي اجر لي البيت وعرفني ببعض خفايا لبدة، كابن عم مخلص من هوارة الساحل كما نسميهم في قرزة، اقترحت على مسينا ان ندخل ولكنه اعتذر وقال لي سنلتقي فيما بعد، فاتفقنا على ان يزورني في البيت ويرى عائلتي الغريبة.
مضى مسينا مبتعدا ومضيت في طريقي بعد ان حييت الهواري صاحب المشرب كنت انوي التجول عبر شوارع لبدة ولكن رؤية مسينا وما قاله لي جعلاني اعود ادراجي للبيت لأحكي لتاسيكا ما حدث، فمسينا الوديع جاء الى لبدة العظمى مثلي بحثا عن قرزة اخرى، هو يحس ما أحس به عن مصير قرزة وتحجرها، ان قرزة اخرى تتشكل هنا في لبدة وعلي ان اجدها.
_ اذن لست وحدك. قالت لي تاسيكا
_ نعم ثمة قرزاويون اخرون هنا لنفس الهدف. قلت
حين خرجت من قرزة لم يكن لي من هدف محدد، ما كنت انوي ما انوي الآن، كنت اريد ان اكون فيديليوس اخر، شاعر اخر، تاجر جديد، اما ما اريده الآن فكان صنيع هذه الببغاوات وتاسيكا، لقد صنعت الببغاوات قدري ومستقبلي، وألقته في تاسيكا مبهرا مقتعا وممكن الحدوث.
مسينا يقول انه مثلي وان مصير قرزة فينا نحن، ما الذي يقصده بالتحديد، هل ينوي على شيء محدد ام انه يبحث كما كنت افعل، الم ير ويعرف الببغاوات وإن رآها فما الذي قالته له؟
_هو طريد مثلك؟ قالت تاسيكا
_نعم هذا ما يبدو، قلت لها: ان مسينا أحد كهنة قرزيل وابن احدى حورياته طريد من ارض قرزيل مثلي، بالتأكيد خرج مثلي هاربا من كهنوتيه ومن حورياته، ربما هو قرزيل طريد، قرزيل اخر جديد، نعم ربما حمل في داخله قرزيله وخرج.
كانت تاسيكا تقلب الامر في راسها الصغير حين هتف فاتيكا “مسينا” فنظرت الي دون ان تعلق بشيء.
كان مسينا قد كبر مختلفا عن كل كهنة قرزيل الشباب، كان يعيش غالبية ايامه في وادي قرزة، بين الفلاحين والعبيد، كان كاهن نباتات وفقراء، يعتني بالشعير والقمح والنخيل والتين والرمان، كان غذاء الجسد شغله الشاغل، كان الشبع والرضا والخصوبة والانجاب فضائله الربانية الأهم، كان الربيع فصله الأثير، وكان ثغاء الخرفان الوليدة موسيقاه، كان يلقم الاشجار ويقلمها ويحش بدأب الأعشاب الضارة وسط الزرع، احبه العبيد والفلاحون وتبعته الخرفان والدجاج وهو يتنقل بين الاشجار كما لو كان امها الرؤوم.
يبارك زواج العبيد والفلاحين، ويحتفي بمواليدهم كما يفعل حين تطرح الاشجار طلعها، وتتشكل السنابل برؤوس سيقان القمح والشعير، كان اهل قرزة الفقراء قد سموه مسينا الوديع لكل تلك المزايا، وكان اغنياء واصحاب مزارع قرزة المحصنة أحبوه بنفس القوة لما كان يقدمه من رعاية لعبيدهم وفلاحيهم ولزرعهم وضرعهم.
كنت اراه كل يوم اثناء تجوالي اليومي وديزيداريو في الوادي، وكنا نتبادل الحديث عن الشجر والاغنام وحتى الأبل، واندهشت حين عرفت انه ابن لقرزيل ولإحدى حورياته، فأبناء قرزيل غالبا ما يتفرغون للحرب والقتال وحراسة قوافل التجارة بين قرزة وجرمة وبلاد السودان.
ولكن ما الذي جعل مسينا الوديع يغادر عالمه ذاك الى لبدة العظمى؟ هل بحثا عن طرق جديدة للزراعة وتربية الحيوانات، ام انه يريد عملا جديدا غير الزراعة وكهانة الفقراء والزرع.
لم يكن العثور عليه وسط لبدة الكبرى بالأمر الهين كما حدث في المرة الأولى حين اقبل نحوي فرحا، اختفى مسينا من لبدة ولم يعرف أحد مكانه، مضى اسبوع بعد ذاك اللقاء وانا ابحث عنه دون جدوى، قلت بعد التشاور مع تاسيكا طويلا في امر اختفائه انه لابد ان يكون هناك في احدى مزارع نهر كينوبس الخصبة، ذاك مكانه المفضل بالتأكيد، فالزرع والشجر عائلته وبيته، وقررت ان اذهب الى هناك بحثا عنه، كنت فقط اريد ان اعرف ما الذي يريده من لبدة ولماذا غادر قرزة؟
ولكنه كان يقف امام عتبة بيتي اللبكاوي وانا اهم بالمغادرة بحثا عنه في اليوم التالي، كنت خارجا الى كينوبس بحثا عنك قلت له، فابتسم وقال “جيئتك وكينوبس الى هنا”، كان كعادته مبتسما ودودا، ادخلته واستقبلته تاسيكا بحفاوة وظل مندهشا لوجودها ببيتي، فاستقبالها وسلوكها وهيئتها لا تشير الى كونها خادمة لي،
_ الغزالة تاسيكا. قلت له، فتمعن فيها مبتسما وقال
_غزالة فعلا، هنيئا لك بها، ثم أردف:
_ ماذا بشأن النبيل ديزيداريو؟
_انه هنا معي، لقد حملني الى لبدة العظمى، قلت له
لم تجلس معنا تاسيكا ولم تسمح لفاديكا بإزعاجنا، بل انصرفت لتجهيز الغذاء.
أخبرني انه فعلا ذهب الى ضفاف كينوبس وزليطن وتعرف الى فلاحيها ورأى كيف يزرعون، ورأى ما يمنحه لهم كينوبس من خير وفير طوال العام، فلكل فصل من العام موسم وزرع هنا، عكس وادي قرزة وسوف اجين البخيلين الذين لا يجودان الا بموسم واحد في العام، وكيف ان طوغارت أهمل الصهاريج وعطل صيانتها لسنوات مما جعل مياه السيول تضيع هباء، “صهاريج السيول يا فضيل هي كينوبس قرزة، الذي يديم الزرع والوفرة طوال العام،” قال لي منبها الى الصهاريج واسمي الليبي.
السدود تتصدع وتنهار ولا يلقي طوغارت وحاشيته لذلك بالا، انهم مكتفون بمكوس القوافل واموالها، انها ثروات كبيرة لا شك ولكن الزرع والضرع، اهم اركان وجود قرزة، هل تعرف ما الذي سيحل بقرزة لو قفل الفزازنة طريق القوافل لعام، سنفلس ونجوع.
كان متحمسا لقرزة التي يعرفها، قرزة الزرع والضرع وليس حراسة القوافل بين جرمة وليبتس ماجنا، نعم ذلك امر منطقي، انه ينظر الى الارض وانا انظر الى السماء وسلالم بلوغها، كان مسينا وهو يفصل عيوب قرزة طوغارت، يصف قرزاه البديل كنقيض وكإنقاذ للمتوترة المتوجسة، انه يبحث عن سلام الزراع،
ووفرة الخبز وحفلات الزواج وطلع الشجر وثغاء الخرفان والقشدة والزبدة والحليب
لا بأس بما يقول قلت في داخلي وانا اتابعه، ان الخبز والزبدة والحليب طريق الالهة لقلوب عبادها.
اخبرته برؤياي وما اختارني لأجله القدر، فنظر الي مندهشا ثم قال “لا بأس، فلتكن لك السماء والمعابد والجيوش، ولتكن لنا الارض ” وابتسم بمكر كهان ساخرين.
أمضي معي ليلة كاملة وهو يشرح ويفصل خططه للسدود والصهاريج وقنوات التوزيع والاشجار التي ينوي زراعتها في وديان قرزة، كان يقتسم قرزة معي عبر خططه تلك، يمنحنني ربوبيتها وحروبها ويأخذ زرعها وضرعها.
مع مسينا بدأت ارى قرزة الاخرى، وتعرفت الى اناس كثيرين جاؤوا الى لبدة بحثا عن قرزة الجديدة، كانوا انواعا شتى من التجار والمغامرين وحتى قطاع الطرق، وكان عليْ ان اميز وان اختار منهم من قد يكون عونا لي على ما انوي وما اختارني قدري لأجله.
كنت قد بدأت في تربية وتدريب ببغاواتي التي غص البيت بها، وانغمست تاسيكا في تلك المهمة بحماس شديد، فلم تكتفي بتحفيظها كلمات ربوبية فيديليوس وابوته، بل علمتها الغناء لتلك البشارات.
كانت ثيران قرزيل ترفس الارض وكانت ببغاواتي ترف بأجنحتها مغنية بفيديليوس الأب والرب، اما مسينا، قرزيل الطريد فكان يحلم بجنان الارض وثمارها،
كان يرضع جدي ماعز حين رأيته لأول مرة، كان يجلس على الارض ويضم الجدي الى حضنه كأم حنون ويلقمه قصبة تمتد من قربة حليب علقت بجذع شجرة كي ينساب حليبها الى فم الجدي عبر عود قصب، لم يكن يسقي الجدي الحليب فقط كان حليب روح مسينا الوديع ينساب الى الجدي عبر ذراعيه وصدره وعينيه، كان اما حقيقية ترضع وليدها، لم يكن فارسا ولا حتى رجلا، كان أقرب الى الام منها الى الأب، وفي أحسن تصور مني له في ذلك اليوم لم يكن الا كاهنا مخنثا لأمون. رب الكباش الوديعة، لم يكن كاهنا لقرزيل المتوتر المتوجس، ولم يكن مرضعا لعجوله الشرسة، كان راعيا لقطعان كائنات هشة في وديان قرزيل القاسية الخشنة،
كان راعيا للحملان والجديان ولسيقان الشعير والقمح ولزهور الرمان ولعراجين النخل ولأطفال ونساء الفقراء , ربما ولد على ضفاف كينوبس بزليطن, او بمرتفعات ربات الجمال, ربما هو هجين , ربما كان نطفة من قرزيل القيت في رحم حورية لأمون, فالأرباب تتخفى في هيئات الفرسان والملوك والشعراء وحتى الشحاذين والرعاة لتعاشر “تانيت” المتخفية في هيئة راعية غنم او حورية اله او حتى مغنية اعراس , مسينا الوديع , كان ورغم ما تصورته عنه في ذلك الوقت اراه الان نهر خصوبة ظل يتدفق غامرا تلك الكائنات الهشة بشهوة البقاء والتكاثر, كانت الشهوة وكما عرفتها عبر ديزيداريو تتجلى ايضا في سيرة مسينا الوديع, حيث لم تكن عبثا ولا هدرا للجهد, بل توجيها له الى مجرى الحياة واستمرارها.
سيكون عوني وشريكي ولو الى حين، قلت لتاسيكا فقالت لي لابد ان يكون.
لقد منحني السماء واخذ الزرع والضرع هكذا قال وقبلت ذلك ووافقت عليه،