النقد

من غرائب جنوب ليبيا (كاف الجنون) (2)

التوارق هم: الأصالة، الشهامة، الكرم، الصدق، سموّ الأخلاق وعلوّ الهمة..

من غرائب جنوب ليبيا (كاف الجنون) (الصورة: الدكتور عبدالعزيز الصويعي)
من غرائب جنوب ليبيا (كاف الجنون) (الصورة: الدكتور عبدالعزيز الصويعي)

القصة الأولى للمرحوم “محمّد القطاوي”:

أردنا أن نلطّف الشعورَ بالخوف من “الكاف” ونجعله “كاف أمان” بدل “كاف جنون”، فاستعرنا ثلاثة بنّائين من شركة إنشاءات تركية تعمل في الأرجاء لبناء استراحة عند قدم “الكاف” تجذب إليها المارة نهاراً وتؤنس المكان وتنيره ليلاً. ومنذ صباح اليوم الأول قام البنّاؤون بتجهيز بيت من الخشب لإقامتهم وصنعوا بعض الكراسي والطاولات والأسرّة، وحفروا بئراً، حيث كانت المياه قريبةً من السطح لدرجة أن حفرةً بعمق أمتار قليلة كفيلة بالوصول إلى ماءٍ زلال حلو المذاق.. وفي الليل جلس ثلاثتهم يتناولون طعامهم بعد أن أحكموا غلق باب بيتهم المُضاءة صناعياً، وقبل الشروع في الأكل تفاجأوا بوجود شابٍ تارقي يجلس بينهم ويشاركهم وجبتهم، فاستولى عليهم ذهولٌ وحيرةٌ شديدة: من هو..؟ وكيف دخل..؟ وكيف جلس..؟ ولكنهم واصلوا الأكل في صمت، وبعد الانتهاء اختفى الشاب التارقي وباب البيت لا يزال مقفلاً.. وفي نفس تلك الليلة كانوا يسمعون أصواتاً غريبة تأتي من “الكاف”، كذلك انطلق الآذان بصوت تردد صداه تجويفاتُ الجبل عند منتصف الليل.

اعتاد الأتراك على تلك الأصوات الغريبة لعدة أيام، كما اعتادوا على الزائر الغامض الذي يأتي عند العشاء ويتغيب عند الغداء، ووجدوا أنساً في صوت الآذان عند منتصف الليل.. ولكن ذات ليلة وهم يغطّون في نوم عميق وإذا بعاصفة رملية ورياح قوية تكاد تقتلع أركان بيتهم الخشبي من أساساته.. انتبهوا مذعورين وخرجوا مهرولين، فوجدوا أن تلك العاصفة تخرج من حفرة البئر وتتجه فقط نحو بيتهم وتهز أركانه.. ومنذ تلك الحادثة رفض الأتراك مواصلة العمل بذاك المشروع وغادروا، فأُحبطت فكرة “كاف الأمان” ونُسفت بفعل تلك العاصفة الهوجاء.

القصة الثانية للمرحوم محمّد القطاوي:

وتنفيذا لفكرة “كاف الأمان”، قررتُ إنشاء مزرعة قبالة “الكاف” يفصلها عنه طريقُ غات.. وكلّفتُ سائق الجرّار بتسوية الأرض تمهيداً لغرسها وزراعتها.. استغرق العمل فيها يوماً كاملاً.. وعند المساء أطفأ السائق جرّاره وعاد إلى بيته، فالجميع هنا لا يتحرك قرب “الكاف” بعد المغرب.. وفي الصباح عاد ليواصل بقية التسوية فوجد المساحات التي سواها بالأمس عادت كما كانت بل أسوأ.

حاول السائق إقناعي بأن سكّان “الكاف” يرفضون إقامةَ تلك المزرعة كما رفضوا قبلها إنشاءَ الاستراحة سالفة الذكر، فعارضتُه بشدة وفرضتُ عليه إتمام المهمة.. وبعد عدة محاولات رفض وركب جرّاره وغادر وبقيت الأرض كما هي عليه إلى الآن.

كانت قصص “الأفندي محمّد” تكاد تكون متشابهة.. وفي نهاية إحدى القصص ذكر لي أن رجلاً من سكّان المنطقة موصوفاً بالصدق والأمانة يقال له “الحاج محمّد بوشه” (وهو نطق محلي لاسم “أبو شاة”) حصلت له حادثة غريبة عند “الكاف”.. فرجوتُ “الأفندي” أن يحضره، فلم يتأخر وأرسل وراءه من يأتي به، وحضر.

جلس “الحاج محمّد بوشه” على يساري، وكان كلانا مواجهاً “الكاف” المتجسد أمامنا عن بعد دون وضوح تفاصيله.. سألته عما حدث له، فرفض.. وبعد إلحاح مني ومن “الأفندي” تنهد بحرقة وبدأ يروي قصته (في الحلقة القادمة سنرى ماذا حصل لـ”الحاج محمّد بوشه”).

مقالات ذات علاقة

عِندما يصبحُ الفسادُ مجرد ردِّ فعْل

رامز رمضان النويصري

شعرية الوعي وتفاعل الهويات الثقافية

المشرف العام

التمنّع في قصة محمد الزنتاني… نص “القرار” نموذجاً

المشرف العام

اترك تعليق