واحد وثلاثون عاماً على وفاة ولي العهد الأمير الحسن السّنُوسي في ديار المهجر، وأربعة وخمسون عاماً على تغييب الشرعية الدستورية. عاش الأمير أربعة وستين عاماً، وشهد على الكثير من الأحداث والانقلاب الذي قلب حياة الليبيين رأساً على عقب، وكان جزءاً من عهد وصف بأنه «أبهى عصور ليبيا».
ولد الأمير الحسن الرضا المهدي السّنُوسي في مدينة بنغازي في 28 أغسطس 1928م، وعينه الملك إدريس السّنُوسي ولياً للعهد بمرسوم ملكي في 26 أكتوبر 1956م، واستمر في منصبه حتى ساعة استيلاء حفنة من الضباط صغار الرتب والسن بقيادة الملازم معمر القذافي على السلطة في 1 سبتمبر 1969م بقوة السلاح. وتُوفي في لندن يوم 28 أبريل 1992م، ونقل جثمانه الطاهر إِلى المملكة السعوديّة، حيث دفن بقرب قبر سيدنا محمّد عليه الصلاة والسّلام، وبجانب قبر عمّه الملك إدريس السّنُوسي في البقيع بالمدينة المنورة.
قدم الأمير لبلاده كل ما استأمنه الله عنده، ومثل ليبيا خير تمثيل في الزيارات الخارجية التي قام بها، وفي المناسبات التي شارك فيها باسم المملكة الليبية. والتزم بشروط المنصب وقيوده، وحافظ على عهده مع الملك إدريس السّنُوسي ولم يخالفه في يومٍ من الأيّام. وكان يعلم جيداً مهمته ووظيفته، فلم يناور أو يتحايل لينتزع لنفسه صلاحيّات لا يمنحها له منصبه، ولا حاول أن يجد لنفسه مركز ثقل يؤثر في القرار وصانعه، من خلال التعاطي مع دوائر الصّراع. وكان يعي تماماً أن منصبه شرفي لا يعطيه صلاحيات أو يحمله مسؤوليات، طالما الملك على قيد الحيَاة، وأن الملك قد يمنحه صلاحيات مؤقتة بأمر منه، ويحجبها عنه بانتهاءِ التكليف.
حقاً، لقد كان الأمير الحسن الرضا السّنُوسي نموذجاً يحتذي به، ومثالأ للأخلاق والتواضع والالتزام بالأصول والقوانين الحاكمة. وكان محباً لليبيا ووفياً مع عمه الملك الصالح الذي لم تر ليبيا منه إلا كل خير ونهضة ونماء، وكان يكن له كل محبة وتقدير واعتزاز، لما يتمتع به شخصه الكريم من رصيد نضالي كبير وحكمة واستقامة وبعد نظر، ولأنه كبير السادة السّنُوسية وشيخهم، وملك البلاد ومؤسس دولة ليبيا الحديثة، وهو الشخص الذي قاد سفينة الوطن إِلى بر الأمان، وتحقق فِي عهده لليبَيا مَا يشبه المعجزة. فقد كان يراه شخصية استثنائية بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، ونموذجاً صعب تكراره، حيث تحققت على يديه وحدة الصف وتحقيق الاستقلال وقيام الدولة. وحينما سئل سموه يوماً عن القيادة والزعامة أثناء حديث دارت فيه مقارنات بين عدة زعامات، وبين شعبيّة فلان وشعبيّة علان، فقال قولته المشهورة: «ليس باستطاعة أحد فِي المملكة أن يقارن نفسه بالملك إدريس السّنُوسي، لقد حارب مِن أجل الاستقلال، ورعى مسيرة ليبَيا بقيادته الحكيمة على مدى عدة عقود».
وبلا شك، لم يتعرض أحد من رجالات العهد الملكي لمثل ما تعرض له الأمير الحسن الرضا السّنُوسي من عذابات وقهر وألم، ولا تعرضت أسرة من أسر رجالات العهد الملكي لمثل ما تعرضت له أسرته من حصار ومعاناة وتشديد خناق. فقد صادر الانقلابيون بيته ومزرعته عقب انقلاب الأول من سبتمبر 1969م. وقامت اللجان الثورية بهدم بيته لاحقاً في احتفال صاخب، وبثت عمليه الهدم عبر شاشات التلفزيون، وقسمت مزرعته إلى قطع من الأراضي وتم بيعها للمواطنين!!
تعرضت أسرته لكافة أنواع المضايقات والحصار والحرمان بعد اعتقال الأمير ظلماً وبهتاناً عقب انقلاب الأول من سبتمبر مباشرة. وقضى الأمير في السجن مدة ثلاث سنوات، ومن سبتمبر 1969م إِلى صيف 1972م، ثمّ وضع – ولمدة خمس سنوات – تحت الإقامة الجبريّة فِي بيت تحرسه كتيبة جيش، ومن صيف 1972م إِلى منتصف سنة 1977م.
وفي 1977م، رفعت قيود الإقامة الجبريّة على الأمير، ولكن استفزازات الأجهزة الأمنيّة ومضايقتها له، لم تتوقف يوماً بعد ذلك التاريخ، حيث تعرض هو وأسرته في صيف 1984م إلى اعتداء جديد ذكرهم بما حدث لهم عقب الانقلاب مباشرة في سنة 1969م، فقد تم إخراجه من مقر سكنه هو وأسرته بشكل استفزازي وتهديدي ووسط إطلاق الرصاص والألفاظ البذيئة، بعد أحداث مايو 1984م بقيادة «الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا»، وحرقوا بيته أمام أعينه هو وأسرته بعد أن سرقوا محتوياته للمرَّة الثانيّة، حيث سبق أن سرقوا بيته بعد الانقلاب مباشرة.
وفي بداية سنة 1988م، أصيب الأمير بجلطة وحالته كانت تستدعي علاجه خارج البلاد، إلاّ أن السلطات منعته من الخروج في البداية، وسمحت له بالسفر في وقتٍ لاحق.
عاش ولي العهد حوالي عشرين عاماً داخل ليبَيا في ظروف السجن ثمّ الإقامة الجبريّة، وقضى كلّ هذه المدة ممنوعاً من السفر، ومحروماً من العلاج والعيش الكريم إِلى أن أكرمه الله سبحانه وتعالى في أواخر سنة 1988م، وسمحت له سلطات القذافي الأمنية بالمغادرة للعلاج، فقضى في لندن بالمملكة المتحدة الخمس سنوات الأخيرة من عمره – وبالرغم من المرض- في حريّة وأمان بين أفراد أسرته الكريمة الذين عانوا معاناة شديدة تحت حكم القذافي، وأكثر من غيرهم؟
أخيراً، حينما كتب الأمير الحسن الرضا السّنُوسي وصيته وتركها لأبنائه والتاريخ، استجابة للواجب الشرعي الذي أمر المولى عز وجل به، وبموجب المسؤولية الوطنية والتاريخية اتجاه الأمة الليبية الكريمة، وضع الأمانة عند نجله الثاني الأمير محمّد، الوصية التي تم فتحها في مؤتمر صحفي حضره جميع أبنائه، الأمراء: المَهْدِي ومحمّد وخالد وأشرف وجلال، وعُقد بلندن في 18 يونيو 1992م وحضرته الصحافة العالميّة وبعض الشخصيّات، ونقلت وقائعه محطّة «سكاي» الفضائيّة البريطانية، وقام الأمير المَهْدِي النجل الأكبر بقراءة الوصية.
لم ينس الأمير الحسن الرضا السّنُوسي أن يطلب من أبناء الشعب الليبي أن يتكاتفوا ويتضامنوا ويتعاونوا على البر والتقوى، ويترفعوا عن روح الاحقاد والكراهية.. ويطلب من نجله الأمير محمّد، وإذا ما فتح الله عليه واختاره أبناء شعبه، أن يكون ملكاً لكل الشعب يحكم بالعدل والإنصاف، ويكون عوناً وملاذاً للجميع، ويسعى للإعمار والنهضة والبناء.. ويعلن أمام الله وأمام أفراد أسرته وأبناء ليبيا بأنه قد سامح كل من آذاه وسبب له أضراراً احتساباً لله وقربة له وحقناً للدماء.
لقد كان الأمير الحسن لا يحمل حقداً لأحد، ولا يفكر في إيذاء أحد، يخاف الله ويخشاه، ومتسامحاً لأعلى الدرجات. عاش عفيفاً ومات شريفاً، ولم يظلم إنساناً في حياته، بل هو من وقع عليه الظلم، فصبر واحتسَب.
رحم الله الأمير الحسن الرَّضا السّنُوسي في ذِكْرَاه، وسلام وتحِيَّة إِلى رُوحه الشَّرِيفة الطَّاهرة في علياء ملكُوتِهَا.
الجمعة الموافق 28 أبريل 2023م