منذ أن وعيت الحياة وجدت أمي تستيقظ من الفجر على صياح الديكة، وتقضي نهارها في عمل شاق وهي آخر من يأوي إلى الفراش، بينما كان أبي يغط في نوم عميق، أو يمتطي الحمار ليذهب إلى السوق، أو يلعب المخربقة والورق في دكاكين القرية. كنا نعيش في إحدى قرى غريان في بيت محفور تحت الأرض. لم تكن هناك كهرباء ولا مياه جارية ولا شبكة مجارٍ.
كان على أمي أن تبدأ يومها بحلب الشياه، وإيقاد النار وتحضير الفطور، ثم عليها أن تحضر كمية كبيرة من الحطب من الغابة في حزمة كبيرة تربطها على ظهرها، ثم تحضر الماء من البئر في برميل جرماني على ظهرها، ثم تجلس لترحي الحبوب في الرحى.
وتمخض الشكوة للحصول على اللبن والزبدة، وتغسل الملابس وتعد وجبة الغداء، بالإضافة إلى غزل الصوف والجلوس لساعات طويلة خلف المسدى، لتحول الغزل إلى عباءة أو غطاء سميك. كان عليها صيانة البيت وخاصة بعد هطول الأمطار فبيوتنا كانت محفورة في الطين، كما تشارك في حصاد الشعير وجمع ثمار الزيتون في صقيع الشتاء، ومعالجة الحيوانات وفي الصيف نستمتع بما غرسته من خضروات خارج البيت في حديقتها الصغيرة لكنها تكفي لتصنع منها أطباقا مختلفة فلم نكن نأكل اللحم كل يوم.
يتولى أبي حراثة الأرض بصبر نافد بعد أن يصرخ ويجلد الحمار، كما يشارك في جمع ثمار الزيتون وتقليم الأشجار وتلقيحها وجز الصوف ومعاقبة أطفاله بشكل عنيف.
من حسن الحظ أنني عشت لأرى المرأة الليبية تشارك بفعالية في ثورة فبراير، فقبل هذه الثورة لا وجود للمرأة في التاريخ الليبي، فكل الثورات قادها الرجال ووقودها رجال. من ثورة غومة المحمودي وسيف النصر ولا ذكر لها في مرحلة الجهاد ضد الطليان باستثناء شذرات عن مبروكة العلاقية وسليمة بنت المقوس، ولم يبق في ذاكرتي من حكايات إلا قصة معركة خاضها الزنتان ضد الطليان، وأثناء المعركة تراجع رجل وانسحب نحو النساء، فحاصرنه ودفعنه إلى قلب المعركة وهن يقلن له: ارجع قاتل واستشهد وفز بحورية من حوريات الجنة، فقال لهن ادخلن وحاربن وفزن بحوري ذكر.
في معظم السرديات التاريخية لا تميل المرأة للثورة. لديها وسائل أخرى لتغيير الأوضاع. في مقدمتها الخداع والخيانة ودس السم والإغراء، وفي معظم الثقافات لم تمجد الشعوب إلا نساءها المحاربات، فمثلا حول الفرنسيون جان دارك إلى قديسة، ولا يزال الانجليز يعظمون الملكة اليزبيت الأولى لتصديها للغزاة الأسبان، وكذلك فعل الروس مع الإمبراطورة كاترين الثانية بالرغم من أصلها الألماني.
بينما رفعت الحضارات القديمة المرأة إلى مرتبة الآلهة، إيزيس في مصر وعشتار في بلاد الرافدين وتانيت عند القرطاجيين والليبيين القدماء، وجمعت بين صفتين للمرأة هما الخصب والحرب، هكذا نجد أثينا عند اليونانيين.
قدست الحضارات القديمة المرأة لأنها احتاجت لسنوات طويلة لتربط بين الجنس والإنجاب. كانت تعتقد أن الإنجاب سر تختص به المرأة ولا دور للرجل فيه، ولهذا تجمع إيزيس جسد زوجها ايزوريس من كل أقاليم مصر إلا عضوه الذكري الذي تأكله سمكة في النيل، ومع ذلك تتمكن إيزيس من إنجاب ابنها حورس دون اتصال بزوجها، وهي الجذور البعيدة للحبل دون دنس الذي اعتمدته المسيحية.
عندما استقر الإنسان واكتشف الزراعة وهو إنجاز نسوي، لاحظ من خلال مراقبته للحيوانات التي دجنها وللنباتات التي زرعها سر الإنجاب، ومنذ ذلك الوقت فقدت المرأة عرشها الذهبي وحريتها المطلقة، في حين استغرق الأمر منذ فجر الإنسانية حتى نهاية القرن العشرين ليكتشف المفكر معمر القذافي أن المرأة تحيض والرجل لا يحيض. هو نفس العقل التوراتي البدوي يطل عبر التاريخ بأشكال مختلفة وبنصوص متشابهة.
العبرانيون، وهم قبائل بدوية تعرضت لسطوة حضارات بلاد الرافدين ومصر أول من انتقم من المرأة، ففي العهد القديم لم تفقد المرأة سر الخصوبة والولادة وإنما خُلقت من ضلع آدم الأعوج، وبالرغم من أن معظم آلهة العرب كانت مؤنثة، مثل اللات والعزى ومناة، إلا أنها فقدت هذه الحظوة عندما حل هبل وإيل ويهوه، وبالرغم من التحقير التوراتي للمرأة، إلا أن اليهودية تشترط على اليهودي الانتساب للأم اليهودية وليس للأب، ويبدو أن التاريخ ينتقم للمرأة من لؤم الحاخامات.
كما أن فقهاء المسلمين تنافسوا على تحقير المرأة، لدرجة أن معظمهم يفتي بإبطال الصلاة إذا مرت امرأة أو كلب أسود أمام المصلي، ومع ذلك يصر نفس الفقهاء على ذكر اسم الأم عند نحر الضحية في عيد الأضحى وليس اسم الأب، وذلك بتأثير الإسرائليات التي تسربت للعقيدة الإسلامية من خلال نفس الفقهاء، وعلى الرغم من كل النصوص التي تتحدث عما أعده الله للمؤمنين من الرجال وخاصة الشهداء في الجنة من قصور وحوريات، إلا أن هذه النصوص لا تذكر شيئا عما أعده الله للنساء في الجنة.
المرأة مظلومة في كل الثقافات ففي القرن العشرين نالت حق الاقتراع والترشح في الديمقراطيات الغربية، بينما كانت مجرد وسيلة للمتعة في الصين واليابان وكوريا، وحتى وقت قريب كانت المرأة تحرق في الهند مع جثة زوجها إذا توفي قبلها، بينما يستطيع تزوج غيرها إذا ماتت قبله.
وفي ديمقراطية أثينا وروما كانت المرأة والعبيد خارجها. الثورة التي فجرتها نساء بنغازي المعتصمات أمام مبنى المحكمة، آلت قيادتها إلى رجل أوصى بأن يتزوج الرجل من أربع نساء في خطاب النصر، بينما طلب من مذيعة ارتداء الحجاب، في حين طلب مفتي الثورة من حكومة علي زيدان الإشراف على استيراد الملابس الداخلية للنساء.
فس العقل التوراتي البدوي يعود لينتقم من المرأة بصيغ أخرى في مقدمتها الشرف، بينما من الشرف أن ننحني إجلالا لتضحيات أمهاتنا العظيمات اللواتي لم يرتدين ملابس داخلية.
بوابة الوسط، الثلاثاء 11 أبريل 2023