محمد القماطي
بخيرته..
جاء وأمه خالتك الربيعية من البادية منذ زمن طويل وسكنا في “براكة” أقاماها على أرض فضاء تتوسط أزقة فشلوم. لم يتزوج حتى بعد موت أمه عنه. إنسان بسيط أو درويش كما يحلو للبعض ان يصفه. لم تكن لديه مهنة أو حرفة يقتات منها. نادرا ما يعرض عليه أحد عمل بسيط يستطيعه مقابل يومية تقدر بدراهم معدودة لا تفي حاجاته الأساسية. يجلس القرفصاء أمام براكته وأحيانا أمام أحد الدكاكين المنتشرة بالشارع الكبير.
يحيي من يعرف ومن لا يعرف. يمشي شابكا أصابع يديه خلف ظهره ليمنح نفسه شعورا بالوقار تسلبه منه أول “عكشة” دخان يلمحها في طريقه. يردد بين الحين والآخر وبصوت مسموع.. بخيــرتـــه.. بخيــرتـــه.. وإن شكى ضيق الحال يقول بصوت خافت “النائبة مكسورة والطير بلا جنحان”.
طرائفه عديدة، يدَّعي أن دراجته القديمة ذات العجلة التشينتراتا والتي يصر على أنها ماركة بيانكي! أوصلته إلى مدينة الخمس في ظرف سويعات قليلة! وإذا قيل له كيف هكي يا سالم بردة؟ يرد: بخيرته.. بخيرته.
خالتي مبروكة..
امرأة من أيام زمان.. جاءت من البادية وسكنت في بيت بإحدى أزقة فشلوم منذ زمن بعيد.. حياة المدينة ما غيرتهاش! ظلت على لهجتها وهيئتها البدوية.. رداءها، عصابة رأسها، قلائدها المصنوعة من الفُجْرة، وَشْمُها، وروائحها.. رائحة العقيق الذي يتدللى من رقبتها، رائحة الحنة التي تنبعث من شعرها ويديها، رائحة السواك واللوبان اللذان ينبعثان من فمها، وروائح أخرى من البخور والزيوت.
كانت تأتي لزيارتنا في بيتنا بزنقة جاب الله. تترنح بجسمها البدين مثل البنقويني! (البطريق).. تدهش في مشيها.. تتمتم بكلمات فتبدو كأنها تحدث نفسها.. يا مربح وين حوش الحاج، قريب وإلا مازال؟ يا وليدي تعالى طقطقلي عليهم، راهو معادش عندي جهد للطقان! يفتح لها الباب فتدخل وتبدأ بالسلام القديم، كيف حالك؟ سلمك.. سلمك كيف حالك؟ وين جيتي؟ سلمك.. سلمك كيف حالك؟ تدخل دار التقعميز فلا تجلس حتى تسأل: وين احميده؟ هاتوه نسلم عليه.. يؤتى بي، أمد لها يدي، فتمسك بها وتجذبني نحوها بقوه، ثم تنهال علي بقبلاتها المصحوبة بصوتا شهيقها وزفيرها، ثم تختمها بقبلة أخيرة على ظهر يدي فأنصرف عنها وأنا أترنح كالسكران.. في بعض الأحيان كنت أهرب إلى الشارع تفاديا لقبلاتها وفي بعضها لا أفلح، حيث تمسك بي أمي وتأتي بي إليها لأنها تعتقد فيها البركة! أسم على مسمى وتستور يا خالتي مبروكة!
المعلول..
قبــل أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، يضع فوق رأسه سفرة السفنز المعبأة من دورين وأحيانا من ثلاثة أدوار.. إسفنجات ذهبية معمولة بالبيض وبدونه.. يجوب بها الشوارع، والأزقة، فيحاول بيعها قبل طلوع الشمس، مقابل عائد بسيط من الربح، يتقاسمه مع صاحب محل السفنز بالشارع الكبير.. خجول، قليل الكلام، يميل الى الوحدة، أو هكذا يبدو.. لم يتزوج إلى آخر رمق.. ظل يتردد على حيه القديم “مقطع الحجر” بمنطقة الظهرة حتى بعد أن احتضنته أزقة فشلوم ليتخذ من أحد دكاكينها سكنا له.. كثيرا ما يرى جالسا وحده القرفصاء عند مدخل جبانة سيدي بوكر، أو واقفا عند تقاطع الأربعة شوارع في الناحية المقابلة للسوق.
التصق به لقب المعلول لأن إحدى ذراعيه كانت مبتورة عند المرفق.. لا أحد يعرف كيف ومتى حدثت له هذه الإعاقة، ولكنها لم تكن تمنعه من إنزال سفرة السفنز بسرعة عند الطلب وإرجاعها فوق رأسه بعد قبض الثمن، ليستأنف سعيه عبر الأزقة وينادي بصوت عالي وإيقاع مميز، سخون.. سخون.