قصة

الخروج من عين الإبرة

 


طرقات على الباب .. ثم الجرس يتصل للحظة .. وقع خطوات متلاحقة قادمة من الداخل:

– أوه .. أهلا .. أهلا.

ينحني صاحب البيت على الطفل الذي كان واقفاً ينظر إلى والده وهو يغلق باب سيارته .. دخلوا معاً حجرة الاستقبال . جلس الضيف وبالقرب منه طفله وقد ظهر عليه شيء من الارتباك.

– أهلاً .. الحقيقة أنك جئت في وقت مناسب.

– أنا أيضاً خرجت أبحث عن شيء من التجديد، مشيراً نحو الطفل، أخذته معي لعلي أجد في مصاحبته شيئاً من الطرافة.

دخلت طفلة محملة بصفرة القهوة، وبعد أن وضعتها على المنضدة خرجت وهي تنظر للطفل الذي ما زال منكمشاً على نفسه.

– الشيء الذي لم يتغير طعمه القهوة والسيجارة.

قال الضيف وهو يخرج العلبة من جيبه ويمدها نحو صديقه.

– أنا أعتقد بأن كل سيجارة لها طعم غير الأخرى . لست كييفاً على العموم .. لكنه استنتاج.

– تعدد أنواع السجائر يذكرني بالتعليقات الصباحية.

– تشبيه لا بأس به فالمرء لا يملك أن يأمر الحرباء مثلاً بتغيير شكلها لأن من طبيعتها أن تكتسب اللون الذي تقف عليه .. هذه خاصيتها منذ الأزل.

– سندخل في بحر تفسيراتك .. اسمع لم أترك البيت من أجل أن أصغي إلي هذا الفلسفات.

– حسناً .. أنت الذي أدخلتنا حقول كلمات الضجر لأنني شخصياً لا أبحث عن المتاعب التي لا طائل من ورائها.

– بابا .. بابا.

انحنى الطفل نحو إذن والده يريد أن يحدثه ولكنه قبل أن ينطق نهره صارخاً:

– اخرس .. قلت لك سوف لن أصحبك معي مرة أخرى.

– ما به؟

– لا شيء .. إنه شيطان .. حتى الأطفال أصبحوا أكثر لؤماً.

– لا عليك فالأطفال ما زالوا أنظف شيء فلولاهم لاعتقدنا بأن الدنيا انتهت.

– هذا اللعين باستطاعته أن يقلب الدنيا في لحظات وكأن العفاريت سكنته.

– لا عفاريت ولا شياطين، الأطفال طاقة من الحيوية والبحث دعه يدخل يلعب.

– سوف يكسر أي شيء تصله يده . إنه إبليس لا يخدعك هدوءه الآن.

– اتركه يدخل سيجد أبالسة مثله . الأطفال دائماً أطفال.

– بابا .. بابا .. بابا.

– يا ابن الكلب اخرس .. عيب .. وإلا سأتركك في الشارع للقطط تأكلك.

– من رأيي أن تتركه يدخل .. لا يمكن أن يجلس معنا وهو يسمع هرج الأطفال في الداخل.

– لا تهتم به أريده أن يتعود طاعة كلامي مهما كلف الأمر!.

– الإرغام لا يمكن أن يكون وسيلة ناجحة .. إنك ضد رغباته، فأنت لم تعرف حتى ماذا يريد فكيف لك.

– اسمع .. الأطفال والنساء أشياء لا تعطها أكثر مما تستحق لأنهم مثل الحشرات. تثير الأعصاب وتحيل سعادتك جحيما.. تصور هذا الخنوص منذ أن خرجت به من البيت وهو لا يكف عن الصراخ وها نحن قد أخذنا الآن أكثر من نصف ساعة ونحن نتحدث عن متاعبه.

– ولكنك لو تركته يلعب .. قصدي لو تركته يمارس طفولته دون أن تكون رقيباً على حركاته لأراحك وارتاحت أعصابك.

– أعصابي .. وأنت هل لك أعصاب؟

– للأطفال نعم .. لأنهم أطفال .. إنهم الشيء الذي يجب أن يكون التعب في سبيله ذا نتيجة طيبة . أنا لا أريد أن أكون شبحاً يخيفهم صوتي وترعشهم صورتي.

– أنت تتوهم ستخور أعصابك وستتحول إلى سوط، ستحس ذات يوم بأن كل شيء يثير أعصابك .. زوجتك .. أطفالك .. الراديو .. الجرائد .. العالم .. المجلات المقطوعة .. الدنيا .. الآخرة .. كل شيء .. كل شيء.

– ذاك بحث آخر .. اعتقد بأن أسباب المتاعب التي نعانيها اليوم نتجت عن طفولتنا، فلو عودنا الأطفال على المشاركة مهما كانت، لكان لهم رأي آخر عندما يكبرون.

– كلام خرافي .. هذيان .. فعندما تجد بأن الكل يعمل على إثارة أعصابك سوف تصاب بالجنون . أحياناً أحس بأني أعيش رغماً عني كل شيء ضدي .. أعيش وسط دنيا فرضت علي، لا يؤخذ فيها لي رأي.

– الدنيا كالوالدين لا يؤخذ فيهما رأي أحد، إنهما يفرضان عليك وليس لك حرية اختيارهم أو اختيار أحدهم على الأقل .. إنها مرحلة يجب أن تعيشها كيفما كانت .. عليك أن تطورها بالبحث عن الأحسن، أمام الأشياء الأخرى.

– بابا .. بابا .. بابا .. بابا.

ينحني الطفل مرة أخرى وهو يتلوى .. وقبل أن ينهي الرجل كلماته تضايق الأب وصفعه على خده بعصبية مفرطة:

– يا ابن الكلب ما بك؟ أي إبليس دخل جثتك اللعينة؟ لعنة الله عليك.

– يا راجل.

وقبل أن ينهض متدخلاً بين الطفل ووالده ملأ الصراخ الحجرة بينما كان الطفل ممسكاً ببطنه وإحدى يديه تتحسس خده .. وفجأة اندلق شيء من تحت ثيابه فانبعثت رائحة وسالت مياه على حذائه متجمعة في بركة تحت قدميه، وأراد والده أن يصفعه مرة أخرى لكن الرجل أمسك بذارعه:

– خلاص لقد انتهت اللعبة إنه يعاني من أزمة حادة منذ أن دخلت ولكنك لم تتح له فرصة التعبير فليس أمامه سوى أن يتصرف بطريقته الأكثر معقولية.

– لعنة الله عليك وعلى تربيتك .. كل هذا بجريرة أمك اللعينة . لقد لوثت نفسك ولوثت الدنيا بحالها انظر إلى البساط وإلى سروالك وحذائك .. شم هذه الرائحة الكريهة .. كيف أنقلك يا ابن الكلب يا قرد .

– هاته سيقومون بتنظيفه .

– اتركه هكذا ليسخر منه الأطفال هيا.

– قلت لك دعه يغتسل إنه طفل فلا تحمله أكثر مما يجب ولو عشت أنت نفس ظروفه لتصرفت بنفس الطريقة وربما بأسوأ .

– هيا .. سوف أعرف كيف أربيك يا قرد .

– غريب أنك لا تختلف عن الآخرين رغم ربطة عنقك الأنيقة . إنك تثير أعصابك بنفسك .. بدون مناسبة . فلو مارست معه طريقة الأخذ والعطاء لتجنبت هذه المتاعب .

– اسمع أراهن بأن قراءة الكتب أفقدتك صوابك . طريقتك هذه بالنسبة لي خرافة . أنا بإمكاني أن أربيه كما رباني أبي. لقد عشت بهذه الطريقة.

وأنت نفسك ولم تمت. عجائب تريدني أن أتبادل النقاش مع طفل يتبول على نفسه؟ إنك مسكين والله.

– لماذا لا؟ ستعوده على أن يقول ما يريد دون خوف، لأن طريقتك هذه بصراحة رغم احترامي لأبوتك تذكرني بالفرق والواضح بين رجل يقول لأولاده اتبعوني وأنا سأجعل حياتكم نعيماً وبين آخر يقول إذا أردتم النعيم فعليكم أن تعملوا من اجل الوصول إليه لأن النعيم ليس رحلة صيد سهلة أبداً.

نهض الرجل دون أن يستأذن ممسكاً الطفل بقسوة وهو ما زال يبكي وينظر إلى أسفل أكثر خجلاً والرائحة تزداد انتشاراً في الحجرة.

بنغازي 15/7/1970

 ___________________________________

* نشرت أيضا بصحيفة قورينا في 28/9/2009 العدد 538

مقالات ذات علاقة

الخرساء

أحمد يوسف عقيلة

تـبـدُّد..

هدى القرقني

والقافلة تسير

سعيد العريبي

اترك تعليق