بيتر الصغيران* | مصر
يوجد عدد من الملامح العامة المشتركة يمكن أن نجدها في أكثر من قصة من قصص المجموعة. الأسماء، لدى الكاتبة لها أهمية كبرى منذ القصة الأولى بهلولة، وسنجد هذا يتكرر في جميع القصص تقريبا، إذ ورد على سبيل المثال على لسان بهلولة بطلة القصة: “تعرفي علاش سموني بهلولة؟! تفاجأت، ثم تستكمل كل بنت تجيبها أمي تموت، أنا بس اللي عشت تعرفي علاش؟ على خاطر سمتني بهلولة“. يتكرر هذا في قصص أخرى في قصة خديجة وزينب، والتي ورد فيها حتى اسم القابلة منى داخل القصة.
الأماكن، داخل الكاتبة لها احتفاء خاص جدا سنجد تنوع في الأماكن من وحدات مكانية أصغر إلى وحدات مكانية أكبر. يمكن ان نعتبر المكان في جميع القصص هو نقطة انطلاق للحدث، يبنى فوقه باقي الأحداث. لو جردنا الأماكن من الأشخاص المتواجدين بها سنجدها تحتفظ بتفاصيلها لتقف على قدم المساواة مع شخوص القصص.
من الواحدات المكانية الصغيرة التي بدأت بها الكاتبة، المدرسة كما جاءت في قصة “بهلولة” ثم بالقصة الثانية “الكمامة” أو قصة “صغار العشية“. ثم تنتقل إلى وحدات مكانية متوسطة في الحيز الذي تستحوذ عليه، مثل الشوارع والأزقة مثلما جاء في قصة (القطوس). تنتقل الكاتبة فيما بعد للحديث عن الأماكن بطريقة أكثر إتساعا و أشمل كما جاء الحديث في قصة (حذاء الماء) عن طرابلس العاصمة كمدينة ساحلية على البحر. في قصة (عشرة أيام في الحي الصيني) وجدنا الحي في مدينة نيوريوك. استحوذت مصر كمكان خاص في فكر الكاتبة على الاهتمام الأكبر، بعد الحديث عن ليبيا.
كان المثال الأهم في قصة (أيام في صحبة أم الدنيا)، مع تقسيم القصة إلى وحدات مكانية وزمنية أصغ، وذلك عبر رحلة في القطار من الإسكندرية في أقصى شمال مصر إلى الأقصر وأسوان في أقصى الجنوب. سنجد الإسكندرية لها احتفاء خاص لدى الكاتبة و خصوصا كما ورد بقصة (جدتي) إذ استحوذت العائلة على اهتمام كبير داخل المجموعة القصصية، حيث سنجد الأب، الأم، الاخوة، الخال، العم.
الأجواء العائلية، نحن هنا أمام أبعاد مختلفة لهذا المفهوم فالعائلة اعتبرتها الكاتبة وطن صغير من ضمن عائلة الوطن الأكبر ليبيا. تجلى هذا المفهوم في قصة (ما بين الظهرة وبوستة) وحديث عن الجدة ودورها في العائلة، حيث تصف الكاتبة “حناي حواء“: “شجرة سنديانة ذات نتواءت بارزة تحمل اّثار العمر في كل أجزاء جسدها“. ثم رصدت الأجواء العائلية في قصة (زينوبة) عند تفصيص تلك العلاقات داخل القصص سنجد للمرأة أدورا مختلفة. في الطفولة هي الفتاة التي تسعى نحو تحقيق أحلامها كما جاء بقصة (الكمامة): “أطلقت على عرائسها القماشية اسمى سالم و خديجة“. ثم تقول في مقطع اّخر: “تمسك بالعروستين وتردد مع المدرسة سالم يقرأ.. خديجة تساعد أمها في المطبخ”.
ثم تنتقل إلى علاقة المرأة بالرجل كزوجين، فقد ظهرت ملامح السمات المشتركة في قصة (شطي بطي) لنجد علاقة ثلاثية تفاعلية بين الرجل والمرأة وآلة الخياطة. سمة مشتركة أخرى، أظهرت تفاصيل العلاقة بين الإنسان والطبيعة كعنصر متفاعل معها ومتداخل لا يمكن فصله فهو يؤثر ويتأثر بها. سنجد تلك العلاقة ايجابية وسلبية كما ورد في حكي البطلة في قصة (حذاء الماء)، كيف استخدم الصيادون أصابع الديناميت في البحر -كما وصفت- لتفجير أجساد السردين الرطبة! بينما في الأسطر التالية تصف علاقة البطلة بالبحر حيث تصف حالتها: “مضت السنوات وابتعدت عن الأزرق المتوسط تحولت إلى سمكة لا تشبه السردين”! يحدث التداخل مرة أخرى مع تضافر عناصر الأسطورة باستخدام عروس البحر في قصة (فستك): “هكذا نحن اسماك تسير على الأرض بروحها وطبيعتها المغامرة وأجسامها الرخوة المتزحلقة”، ثم تجمع عناصر الطبيعة مع الحكاية لتحسب الإنسان من تلك الأشياء. “نجتمع كالنورس ذات المناقير.. ثم تستكمل.. ننزع ملابسنا ونرتمي في أحضان البحر“. تحول البحر إلى حالة وعلاقة صداقة بين الإنسان والطبيعة إذا أحسن استخدامه. من ضمن الأشياء الملحوظة لدى الكاتبة معرفة مذهلة بالكائنات البحرية في كثير من القصص وخصوصا سمك السردين.
العلاقة بالأشياء، العلاقة الأخرى التي اهتمت بها الكاتبة هى علاقة الإنسان بالأشياء من حوله كيف يستغل الجماد ويطوعه حسب أغراضه الشخصية. جاء وصف الكمامة بقصة (الكمامة) من مجرد واقي لحماية الأنف لمنع انتقال العدوى المرضية إلى علاقة ارتباط بين الإنسان بالجماد، حتى واصلت البطلة متابعة مصيرها لتصف هذا المشهد: “وقفت بمحاذاة النافذة الضيقة المشوهة بقضبان حديدية تراقب الكمامة“. ثم جاءت العلاقة بين الإنسان والاّلة في قصة (شطي بطي) لتتحول إلى عنصر فعال في حياة البشر.
الكتابة التوثيقية، أخذت حيزا هاما حتى تحولت عين الكاتبة إلى ما يشبه الكاميرا التي ترصد الحدث ثم تعيد تشكيله من جديد من زاوية مختلفة. المثال المهم، الذي اعتبر شكلا توثقيا هاما في قصة ( أيام في صحبة أم الدنيا) بدأت بوصف القطار كمكان يجتمع به فئات بشرية مختلفة لتصف لنا عاداتهم، ثم تنتقل إلى السرفيس في صعيد مصر مع دمج كل هذا في حواديت سردية، مع توثيق الأحداث باستخدام الاسماء لنقرأ أسماء بعينها مثل “عزة” “مينا”، مع وضع لمحات من تقارب دول البحر المتوسط حيث تقول: “لولا بعض اللافتات التي توقظني من أحلامي وتنبهني إلى موطىء قدمي لظننت أنني في طرابلس”، حيث توثق المباني والشوارع. نحن هنا أمام محاولة لعمل توثيق اجتماعي ومعماري أيضا.
يوجد مجموعة من القصص نقدر أن نضع إليها عنوانا جانبيا كقصص خاصة جدا. أول قصة هى قصة (القطوس)، الحكاية على لسان حيوان كلما قرأنا مثل تلك الحكايات لابد وأن نتذكر حكايات كليلة ودمنة، كيف تحولت مثل تلك الحكايات إلى نوع من نقد الواقع لكن بطريقة مستترة يقدر أن يستخدمها الكاتب بطريقة أو بأخرى في عملية تشريح المجتمع.
السؤال الذي نضعه عند قراءة مثل تلك القصص، ماذا لوامتلك الحيوان هذا الوعي؟ وتكلمت وشرحت كرؤية أخرى للكائنات الحية الأخرى التي تعيش معنا على كوكب الأرض!
بدأت قصة (القطوس) على شكل مشاهد متتالية قصصية من مشهد لوتشيا مع باولو في نابولي، وكيف يرفض القط عنف الرجل ضد المرأة. المشهد الثاني على ظهر السفينة مع بحار. المشهد الثالث، هو ترسيخ لمبدأ العزلة بين البشر بعضهم البعض الذي تسلل بدوره لمشاعر القط كرواي للأحداث: “شعرت بالخوف والغربة“. ثم تكرر في مقطع اّخر: “لم يلتفت إلىّ أحد”. لينتهي بنا الحال إلى سؤال هام لخص أحدث القصة، كيف يمكن أن نرى امتدادا للوجع الإنساني مع اختلاف الأماكن والبشر! على الرغم من هذا تؤكد على محاولات البشر للحياة لنتذكر هذا القول: “العيش ممكن رغم الفوضى والزحام وعدم الأمان“!
القصة الأخرى التي اعتبرتها كقصة خاصة هى قصة (الشيخ حمد)، حيث تناقش عددا من القضايا الهامة، علاقة الساحر بالمسحور، وكيف يتم السيطرة على البشر عن طريق الخرافة؟! ثم المجتمعات اليهودية التي عاشت في الوطن العربي وخصوصا في شمال أفريقيا وأسئلة عن كيف عاشت؟ وكيف رحلت؟ ولماذا؟
القصة قسمت السرد بداخلها إلى عدد من المستويات من الحكي: قصة الرجل اليهودي علاقته بالمجتمع المحيط به، ثم قصة الشيخ حمد وتحولاته الشخصية لتصف علاقته مع بقايا الاستعمار، وكيف حول الطب الشعبي إلى شىء مؤثر في الاّخرين.
كاتب وأديب مصري