في زخم لافت لمشهد الرواية في ليبيا، التي يكتبها اليوم جيل عاصر الدكتاتورية، ثم انتفاضة شعب حمال أزمات متلاحقة، وتعسر انفراج، جيل تظهر انشغالاته مفصحة بصوت عالٍ عن قلقها الوجودي، وتطرح أسئلتها عن مصيرها ومآلات حال البلاد. وفي كتاب «شمس على نوافذ مغلقة»، أنطولوجيا أنجزها الشاعر والمترجم خالد مطاوع، والصحفية ليلى المغربي، رصدت نماذج لمنتج الشعر والسرد في عشرية انتفاضة فبراير 2011م، عدّها الناقد أحمد الفيتوري «كتابة متميزة وإن اختلفت في الدرجة، وفي موضوعاتها تتناول الموت كما الحياة، محطمة للتابو في اللغة والموضوع، وأن ما يميزها أنها كتبت في زمن الثورة، والحرب الأهلية الناتجة عنها، هي حرب مدن وشوارع، وقودُها جيل الكُتاب، من إخوتهم وجيرانهم وزملائهم وأحبتهم».
ما أتيح اليوم، خرق للحُجب، مكاشفة المشهد بما هو عليه، تشريحه ونقده، بل وعي وإعلان ذات وموقف من الحاصل، نقارب أحد نماذجه، «جاييرا» رواية سراج الدين الورفلي (صدرت 2021م عن دار براح للثقافة والفنون، بنغازي). شخصية بطلها، الراوي، معلقة بين زمنين، وتُعايش ربقة دكتاتورية، وما إن تعتقد بتجاوزها، مع متغير عسير، حتى تقع في حصادها وإرثها الذي ما ينفك يطفح على السطح. لعلعة السلاح عنوانه، متغير قدم فيه الشباب أرواحهم، متطلعين للفكاك من أسر طال أمده: «أحاول طرد الكوابيس من داخلي، ثماني سنوات زادت غربتي فيها بهذه البلاد، وإذا كنت من قبل بالكاد أعرفها، فأنا الآن لا أعرف أي شيء عنها».
رمزية الديك
الرواية الأولى لسراج «جاييرا»، تستعيد وضعية القهر، ومنهجة الإذلال في الأنظمة الشمولية، التي جرى تمريرها وتطبيقها على شريحة الشباب في ليبيا القذافي، والمُدَافع في خطاب السلطة عن وجوبها كمنهج حياة، نظريًّا في مفردات الدروس التعليمية، وتطبيقًا بدءًا من الالتحاق بالمثابة الثورية وتبني محاضراتها، والانخراط بمعسكرات للبراعم والأشبال والسواعد، ثم للحرس الثوري، وللموجهين الثوريين، وللحرس الجماهيري، وللأمن الشعبي! بطل جاييرا، الشخصية الرئيسة، لا اسم له، وكأن ذلك متقصد كدلالة لحكاية جيل بأكمله عاصر ذلك. يتخرج من الجامعة، فلا يجد عملًا، وسط ظروف عائلية، فيها طفولة مُحبطة، ومحيطهُ بطالة مُقنَّعة سادت بلد النفط، فينخرط بإرادته، ووفق مبررات تلزم الناس على التعايش معها، فيغرق في سيل من العنف المتبادل، مع توالي الأحداث في يومياته بالمعسكر وبؤسه، كمكان الرواية الأبرز: «رميت بنفسي في هذا المعتقل النازي الفاشي، سجلت لأدعم ملفي الوظيفي».
تهيمن ثيمة «الديك» على الرواية، تمثلاتها تظهر كعتبة أولى عنوانًا، فجاييرا توصيف لمكان، هو حلبة مصارعة الديوك بالإسبانية، وصورةً لغلاف ينتصب فيها الديك بكامل واجهته مُعتليًا بنايات الحي (لوحة الفنانة شفاء سالم)، كشخصية حاضرة مؤنسنة، لها أفعالها، وكوابيسها: «بدأ جزء من الديك يشبهني، كان كلانا انطوائيًّا بشكل ما في سلوكه». وفي متن صفحات الرواية المئة والسبعين، يُطل ديك مزرعة الجد الذي ينقر رأس البطل طفلًا، الديك جندي بالمعسكر، بل المعسكر نفسه جاييرا، الديوك المتسلطون من أصناف البشر، وفي فصل الختام ينقذ البطل ديك المعسكر: «لمرة واحدة على أن أكون ديكًا، وأجد شخصًا أقل مني وأركبه، لن أصير الديك الذي ينقره الجميع».
الديك في الذاكرة الجمعية، ليس معلن شروق الشمس فقط، بل أمثولة الذكورة والخصوبة، ودلالة السلطة المتعالية، حتى إن ذبحه مُؤجل، ومعبر عن ذلك في مدونة التراث الشعبي بأغلب صنوفه. ويرتبط الديك أيضًا بحكاية تنزع نحو التدين الشعبي؛ إذ الديك من يطلُع حيًّا في رواية عن شيخ المتصوفين عبدالسلام الأسمر، حين استضافه صاحبه، وكان مُعدمًا فلم يجد لوليمته، غير ديكه النافق.
الشخصيات الرئيسة في الراوية هم ضحايا بشكل ما، مُثلثها: الراوي، علاء، إيهاب، وإن حاز الأخير نصيبًا في بنية الرواية، يكاد يتوازى مع حضور الراوي، في المروي من تفاصيل سيرة إيهاب، طفولة وشباب، وارتدادات تربية قاسية، وضغوط مجتمع، ما تلقي بظلالها النفسية على مجمل حياته حد الانتحار. أما علاء فمتعدد الوجوه، لبُوسه الأُرزقي حاضر دومًا، البراجماتي المنتفع وسط الكوارث، ما يحوله من عاطل إلى ثائر: «حين بدأنا نسمع صوت الناس يجتمعون خارج المعسكر، بهتافات ضد الأخ القائد، كان علاء أول من خلع البدلة العسكرية الخضراء وهرب».
النص محمل بإسقاطات عن القهر الذكوري، وتناقضاته الصارخة التي تخنق وتحاصر بطل الرواية: «كنت متأكدًا بأني لا أملك ضميرًا ذكوريًّا/ سَمى الجندي الذي رفض القفز باسم الضابطة!». اعترافات وشكوى الراوي من المحمول البطريركي، فلا اعتراف بأدوار النساء، وعنده أن: «أمهاتنا كل يوم يقمن بأعمال بطولية، داخل المنازل وخارجها، دون أن يعتبرن ذلك إنجازًا، النساء بالعموم أكثر قوة، لا يشتكين بسهولة من الأمراض، الرجال مرهفون أكثر»، وبأن الذكر مطالب دومًا ضمن مَكنة إلزامات السلطة والمجتمع بإبراز فحولته، سيطرته، وممارسة لعنف وانتهاك ضد أقرب الناس إليه.
إسقاطات وإحالات سريالية
في الراوية مرجعيات تحيلنا لنصوص ثقافية، غاليانو، مارلو، الصادق النيهوم، لتعطي بُعدًا آخر لمحمول شخصية البطل، الغريب في نظرته لذاته، والغريب عن واقعه، إذ هو قارئ، ومستشهد بالإحالات بما ينطبق فيها، ويناقض حالاته: «كتاب القرد العاري، كتاب تاريخ الشيطان»، وفيها ما يعتمد أسانيده، كأساطير، ومعتقدات وأقوال شعبية، وأعراف، وطقوس تقليدية. وفي نماذجه من عالم ومسلك الحيوان يستحضر: «قردة المكاك، الراكونات، الخرتيت، جواميس وحشية!»، يتكئ عليها لتُقارب أفعالًا إنسانية قاسية تمارس على المحتجزين بالمعسكر. كما لا يمكن استبعاد وقائع معاصرة ضمن عوالم التخييل: «في فترة السبعينيات أصدر النظام قراره بالزحف على أرزاق الأغنياء، شعارات رددها، جعلت جيشًا من الهمج يهجمون على أملاك الناس»، وشخوص، كان لها أدوار بمنهج السلطة، جرى دسُّها ضمن الأحداث.
السرد في جاييرا، يتضمن إحالات سريالية، فانتازية، فحبيس المعسكر، تطارده الكوابيس منامًا وغفوة. الحلم هنا كانعكاس للواقع وهروبًا منه: «كنت أشعر ببرودة مبهجة وأنا أحلم… صرت أحلم وأنا مفتوح العينين». وفيه استعارة لتحليل وفهم الشخصية، اللاوعي يرتبط بمخبوء النفس، وعلم النفس يفسرها كإشارات ورموز، ما يذكرنا بألبرتو مورافيا، وقولته، عمن تُصوره أحلامه وتكشفه، ولعل كل صانع رواية يروي حلمًا.
سراج يحيلنا أيضًا إلى مشهدية سينمائية، في مونتاجها، يذهب لتعرية وإدانة مجتمعه في مسلكياته التي لا تغادر قوالبها، كمقاربته التهكمية للتفنن الشعبي في صنع وجبة ليبية شهيرة «المكرونة المبكبكة»، عن الفوضى في مطبخ، كأنه مسرح جريمة، هي اللقطة المتناقضة مع فِلْم المخرج ألفونسو أرو «Like water for chocolate» (كالماء للشوكولاتة)، أو كما لقطة تراجيدية تنضح بالخيالات العجائبية، كأنها تتناصّ مع سينما اختصها هيتشكوك، خيالات المقص الكبير، الطائر العملاق الذي ينقر رأس البطلة: «حين رفعت رأسي إلى الأعلى كان فوقي دب، دب حقيقي، ناطحة سحاب»، «ولد ضخم انزلق لهذا العالم مثل طائرة إيرباص عملاقة».
الرواية تمتح من أدب القسوة، الهجائية الشاتمة، وصور القهر في دورانها بين عوالم خاصة (الأسرة)، وعامة (المعسكر، الحي).
مجلة الفيصل | 1 يناير 2023م.