هل يتحتم على الرواية أن تقول الحقيقة وتُطيح بأوهام الجميع ؟ أما أن بعض الحقيقة يوازيه الخيال، العقيد نص روائي يُثبت أن للمحنة جذور سقتها النار وروت سرمديتها، إن التسلسل المنطقي الذي تستهله الكاتبة “كوثر الجهمي” ينقلب رأسا على عقب فيما يشبه تغيير موازيين القوى حيث تتداعى الأحداث في قالب تقريري يزاوج ما بين زمنين يفصل بينهما برزخ المحنة أو قد نسميه التطلع نحو تغيير ما يُعيد صوغ المشهد السياسي والاجتماعي، فالكاتبة هنا تلعب على ثيمة قد لا تحمل حبكة تُخلّف لدى قارئها صدمة ما لكنها تحاول في ضوء شخوصها إعادة قراءة الواقع السياسي لليبيا، وتصحيح تأويلاته الشائعة، وفق أسلوب لغوي سلس وسرد لن يُشعرك بالرتابة والملل يكتشف أن العقيد رواية تسير ضمن مشروع أطلقته الكاتبة في باكورة أعمالها (عايدون) فالكثير من العوامل تشترك فيها، فتظهر لنا مثلا مسألة الليبيون اللذين قرروا العودة من ديار المهجر عقب استتباب الأمور في البلاد همّا يحمله قلم الكاتبة لتقحمه بشكل آخر في روايتها الجديدة بعد (عايدون) من خلال شخصية “غزالة ” العائدة بمعيّة والدها من دمشق، إضافة إلى أن آدم الشخصية الذي تبنّى فكرة إصدار كتاب يضم شهادات أفراد من عائلة وأصدقاء العقيد علي المرابطي الذي تعرّض لواقعة اغتيال بعدما حزم أمره وقرر الرجوع لوطنه، فكرة الكتاب وتحويلها لرواية متخيلة حسب تصور آدم تجنبا لما سيترتب عليه نشر ما أدلى به رفيق والده “بركة” من حقائق عن المعارضة الليبية ومزاعم تورطها في قتل العقيد علي المرابطي، وسط هذا الخضم التراكمي يطل سؤال هام هل بامكان الرواية خدمة التاريخ بإعادة صوغه على نحو ما ؟ إذن كيف نفرّق بين الحكاية والرواية ؟
هل الرواية بحاجة للمنطق المتعارف عليه ؟
التسلسل المنطقي لتدفق الأحداث لا يفاجئك كثيرا فكلنا على دراية بصورة أو بأخرى عما جرى من وقائع إبّان حرب تشاد لاسيما معركة سقوط قاعدة وادي الدوم الشهيرة، وتعرّض الجيش الليبي لأسوأ صفعة في تاريخه، لا ندري هل الكاتبة شاءت أن تُفنّد عبر هذه السردية ما حاولت المعارضة الليبية الترويج لها بأنها البديل الأمثل للنظام السياسي القائم وقتذاك؟ أحد التساؤلات التي نخرج منها من هذا العمل، علاوة على المنطقية الرابطة بين الأحداث كان لابد للكاتبة أن تحد منها أو تُوجد منطق موازي لما يعرفه القارئ ويدرك ماهيته، النهاية إذ صورّت مقتل العقيد سبقت البداية التي لم تتهيأ ظروفها بعد، وما بينهما تُطل أشواك طريق طويل وشائك تحفه تجارب طويلة بنفس لاهث يتيه أفراد وتتبعثر تطلعاتهم كيفما اتفق.
آفاق السرد
لا تظهر دلالات قويّة في عملية السياق الفني لحبكة العمل فوجهة نظر الكاتبة تبدو للقارئ ضبابية على نحو ما، لكن إن ما يميّز قلم الكاتبة كوثر الجهمي أنه يتمتع بجزالة في الأسلوب وتقنية سردية تفتح شهية القارئ فيظل بمنأى عن الملل والضجر، وربما هذا ما أجد بأن الكاتبة قد نجحت فيه إلى حد كبير، قرأنا إن بعض القرّاء واجهوا لُبسا في الخلط بين الحقيقة والخيال، وهذا يُعيدنا للمربع صفر حين اصطدم الوعي الجمعي برؤية تجسيد الخيال على شاشات السينما لأول مرة مما أصابه بالذعر والهلع فكان الجمهور يفرّ من قاعات العرض متصوِّرا أن ما يراه على الشاشة الكبيرة هو الحقيقة بعينها مما يدل على طفولية الوعي لدى الكثيرين ومحدودية آفاقه، وهنا أيضا نواجه تحدٍ مرير يثبت حجم فقرنا المعرفي وانخفاض سقف مخيالنا فالكثيرون منا يجهل حتى ماهية الرواية وبديهياتها كما أشارت الكاتبة نفسها في حفل توقيع روايتها مؤخرا مما يضطر الكتّاب لذكر مصادرهم وتزيين حواشي كتبهم بالهوامش الموضحة والمفسرة ! للحيلولة دون إرباك القارئ!، وهذا إنما مؤشر خطير يتورط فيه بعض الروائيين، والكتاب بتدبيج تفسيرات أمام قرائهم متناسين أن خطوة كهذه تحدّ من خيال القرّاء لاسيما في العمل الروائي ! برغم ما نعدّه هنّات أصابت (العقيد) بيد أنها تعد لبنة مهمة في مسيرة الكاتبة الأدبية مستقبلا.