المقالة

عبد المولى البغدادي ظاهرة شعرية واجتماعية لن تتكرر!!!

الشاعر الدكتور عبدالمولى البغدادي

لله ما أخذ ولله ما أعطى وكل شيء عنده بمقدار، ما أقصر هذه الحياة وأدناها، تجمعنا بمن نحب، ثم تفجعنا، ما هي إلا مقدار سويعات كنت أبتهل وألهج بالدعاء والمغفرة قرب رأس أبي وهو يرقد في قبره، حتى رجعت إلى بيتنا لتستقبلني أمي وأختي بخبر وفاة صنو أبي وخله أستاذي الفاضل الدكتور عبد المولى البغدادي، رحمه الله تعالى في هذا اليوم المبارك الجمعة، يا له من خبر مفجع!! استدعى كل لحظة أنس ومحبة وبهجة مع هذا المعلم والمربي الفاضل، أسأل الله سبحانه أن يجمعني بهما في فردوسه الأعلى، كانت أول صلة بالراحل رحمه الله وأنا علىٰ مقعد الدراسة العليا الماجستير، وقد توطدت العلاقة به مع الأيام، حيث انتهج سبيل التشجيع، والتكريم، مبتعدا عن الرسميات، يشعرك بأبوته قبل تعليمه، كان أثر الأدب عنده سلوكا وأسلوبا غير متكلف، لا تشعر بالوحشة معه، كان يؤنسنا برفيع الأدب والشعر المنتقى، حتى اخترع لنا ما سماه «المخالفة الشعرية» لكل من يقصر أو يتأخر، وما أكثر تقصيرنا!، أذكر ذات نهار وقد تأخرت عن المحاضرة فأبى أن يدخلني إلا إذا أتيته بعشرة أبيات، وهو يستشعر محبتي للشعر ويدرك تواصلي معه، بل كان يشجعني علىٰ قوله، بقوله: أنت جدير بأن تهجوني، وأنا أستحي لهذا المقام الذي يراه ولا أراه، وبدأ يلح في طلب تلك الأبيات لأكون عبرة لغيري، فقلت له من محفوظي سأعطيك بيتين يعدل كل واحد منهما مائة بيت، فتلهف وقال لي : هات ما عندك ولو أقنعتني بهما أعفيك من كل تأخر وتقصير، وهنا كانت المفاجأة وكانت بداية الرحلة معه رحمه الله، حيث قلت له:

رِضَاكَ شبابٌ لا يليه مشيب * وسخطكَ داءٌ ليس منه طبيبُ

كأنكَ من كُلِّ النفوسِ مركبٌ * فأنتَ إلىٰ كُلِّ النفوس حبيبُ

فبدأ يصرخ بدون مبالغة ويتأوه الله الله الله، والكل يشهد بذلك من الأصدقاء الذين كانوا معي علىٰ مقعد الدرس منهم صديقي العزيز الدكتور كمال الهرامة، ثم أذن الله أن تدوم تلك الصحبة، وخرجت من حيز الدراسة إلىٰ حياة أرحب وهي صلته الاجتماعية العميقة التي يشاركني فيه كل من لقيه داخل الوطن وخارجه، وهي السمة الغالبة عليه بما كان يلونها من صنوف الأدب المصفى، حيث كان شاهدا علىٰ عقد قراني، هو والشيخ الجليل حفظه الله الدكتور فاتح زقلام، فما أسعدني بهذا الشرف شيخ وشاعر، أما الشيخ فاتح فقد ألقى خطبة عصماء ارتجلها ما سمعت مثلها، أما الشاعر وهو الآن بين يدي الرحمن جل وعلى، فقد ألقى قصيدة أبهجت عرسنا، وأظهرت مقدار المحبة التي بينه وبين أبي رحمه الله وبينه وبيني، حيث استدعى فيها ذكرياته، وغلبت عليها الدعابة، واشترط في نهايتها أن يكون شرط صحة شهادته أن يسمي الابن الأول خليلا، حسبما أورده في هذه القصيدة يوم الخميس 18/ 10/ 2007 والتي يقول فيها:

نورس الشعر الدكتور عبدالمولى البغدادي، صحبة الشاعر رضا محمد جبران
نورس الشعر الدكتور عبدالمولى البغدادي، صحبة الشاعر رضا محمد جبران

رَضِي اللهُ عَنْ رِضَا وَأَبيهِ

وَذَويهِ، وَتَابعيهم جَميعا

رَضِي اللهُ عَنْهمُ وَارتضاهم

شَرَفاً طَاهراً وَذَوقاً رَفيعَا

رَضِي اللهُ عَنْ نسَائبهِ الغُرِّ

الذين ارتضوهُ صِهراً مُطِيعا

آنسَ الُّلطفَ فِيهمُ فَاصطفاهم

وَاصطفى قُرْبَهم وَهَبَّ سَريعا

إِنَّما الُحرُّ مَنْ يُصاهرُ حُرَّاً

مِثلهُ كَالرَّبيعِ يَغْشى الرَّبيعا

ضَاعَ مَنْ يَنشدُ الخَيالَ وَيَهواهُ

وَعَارٌ عَلى (رِضا) أَنْ يَضيعَا

حَسْبُهُ الله كَان لَيثاً هَصوراً

لَا يَهابُ التَّرويعَ وَالتَّقريعا

بَحرُ شِعرٍ مُناضل وَابنُ بَحرٍ

لَايَملُّ التَّصريعَ وَالتَّطبيعا

فَإِذا بَينَ لَيلةٍ وَضُحَاها

وَرِضاهَا يَصيرُ حَمْلاً وَدِيعا

كَانَ فِي القِسم قُدوةً لا يُضاهى

وَرَأى مَا رَأى فَخرَّ صَريعا

مَن تَجنَّى عَلى الهَوى وَتَعامى

مَاتَ يَأساً وَمَنْ أَطاعَ أُطيعا

كُلّ يومٍ فُتوَّةٌ وَفَتاوى

سَافرات نَحارُ فِيها جَميعا

ثُمَّ مَاذا؟ لَقد تَرهبنَ حَتّى

خِلتُهُ فِي الوَقارِ صَارَ يَسوعا

لَبِسَ الثَّوبَ وَالعَمامةَ رَمزاً

وَشِعاراً فَكان نَجماً فَظِيعا

يَا ابنَ مَسعودٍ أيُّ سَعدٍ سَعيدٍ

مِثل هَذا تَألُّقاً وَسُطوعا

بِاحتفالٍ تَألّقَ الصَّحبُ فِيه

وَجلالُ المَكانِ يُضفي خُشوعا

يَا ابنَ مَسعودٍ يَا أَعَزَّ صَديقٍ

يَستحقُّ التَّعظيمَ وَالتَّرفيعا

كُلُّ سَرٍّ خبَّأتهُ لَك فِي الهِندِ

وَلو حَاولوا مَعي لَنْ أُديعا

أَنتَ رَمزُ الوَفاءِ فِي كُلِّ قَلبٍ

طِبتَ أَصلاً وَطِبتَ أَيضا فُروعا

جِئتُ أُهدي إِليكَ وَمضةَ شِعرٍ

عَلَّهَا بِ( رِضَاكَ) تَغْدو شُمُوعا

مُسْتَعينا بِشَاعرٍ جَاءَ قَبْلي

بِاعتذارٍ عَسى يَكون شَفيعا

«كُلُّ شَئ ٍأُهديه غَير بَديعٍ

لَكَ مِني إِلّا اعتذاراً بَديعا»

وَأَخيراً تَفضّلوا بِاقتراحٍ

وَ«جميلُ» الشُّهودِ يَبدو سَميعا

آلُ جُبرانَ يَرقبونَ «خَليلاً»

عَلَّهُ مِن رِضا يَحِلُّ سَريعا

فَاجعلوهُ فِي العَقدِ شَرطَ وُجوبٍ

وَاقبلوهُ، أَوْ اسحبُ التَّوقيعا

رحمك الله يا أبا ضياء لقد شهدت بفضائلك الأقارب والأباعد، كم كنت تبتهج بوجودنا، وتسعد لسعادتنا، نعم هكذا كان عندما أبلغته بقدوم خليل فارتجل من فرحته قائلا:

لقد ولد الخليل وفي يديه

دواويني وفي فمه القوافي

قد آثرني بعدها بجمع أعماله الشعرية غير المطبوعة لتكون في ديوانه الجديد النورس الضاحك، وكان يراوده هاجس قرب الأجل، وكان يلح علي ولكن حالت الظروف دون ذلك فأوعزه إلىٰ غيري، وذاك شرف حرمت منه، وقبل أيام اتصل بي مبتهجا بعرس يعده له الأقران بعد (رحلة الثمانين)، وأرسل لي مشروع ترسيمه وهو (قمة التسعين) وطلب مني المشاركة فيه بقصيدة تأتي علىٰ وزن وقافية قصيدة الشاعر أحمد شوقي في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، والتي يقول فيها:

 ولد الهدى فالكائنات ضياء*** وفم الزمان تبسم وثناء

وذلك لتتويجه وتتويج الشيخ العلامة عبد اللطيف الشويرف، ولكن قدر الله وما شاء فعل، ولا حذر مع القدر، حيث أصابه وباء هذه الجائحة كورونا، سلمنا الله وإياكم من شرها، وحفظ كل بلاد المسلمين، وقد سار إلىٰ رحمة ربه يوم الجمعة، 20 /11/ 2020 رحمك الله وأسكنك فسيح الجنان، ورحم سائر أموات المسلمين، وكتبك في الشهداء الأبرار.

ابنكم رضا محمد جبران

مقالات ذات علاقة

رقصنا مع «روجيه ميلا».. وحملنا مع «بيبيتو» ابنه

أحلام المهدي

مازلت نا هو نا

عبدالرحمن جماعة

الطريق إلى الديمقراطية في ليبيا مازال طويلا وشائكا

جمعة بوكليب

اترك تعليق