مكان لا تجوبه الكلاب، هي أحدث مجموعة قصصية تصدر للكاتب الشاب “محمد النعّاس” عن منشورات دار الفرجاني للنشر والتوزيع، مزيج هائل من العوامل التي يمثلها المكان وصراع الشخصيات وتدافع أحداثها، وكأن بالمجموعة تنظم خيطا رفيعا وواحدا على أرضية مشتركة، ثمانية قصص قصيرة هذا ما احتوته دفتيّ المجموعة يمارس فيها القاص حُلمه فوق أرض تُدين الأحلام وتنشر الكلاب البوليسية في كل مكان، ففي المحطة 69 رمزية لتاريخ احتفى به الليبيون، ومن ثم أطلقوا عليه رصاصة الرحمة، فالعامل بالمحطة يعيش ممزقا بين هواجسه ووطأة أوامر مدير المحطة الكهربائية يعتقد أنه سينجو من الوصاية السياسية والاجتماعية إذا ما نجح في كتابة قصة، وهذا ما استدعى خروجه عاريا ذات مساء بقطعه للكهرباء عن كل أنحاء البلاد باستثناء شارعه بعدما حطّم زجاجة الفودكا الفارغة على رأس مديره، قسوة ردة الفعل الثانية تجيء مضاعفة عن الفعل الأول، المكان في هذه المجموعة يتنفس من رئة مصابة بزكام مزمن إنه الوطن الذي تجوبه الكلاب رغم نفي العنوان الرئيس للمجموعة، وللمفارقة أن الكلاب وادعة لكنك لن تجدها إلا شرسة طال الضباب أفق رؤيتها.
الرئة الثالثة
(الأبناء ليسوا كالكلاب يا صديقي. قال له…هم مثلهم إن كانوا سيصبحون جنودا) هنا يستدعي هذا التصريح الفج أزمة تعانيها شخوص القصص، ونكتشف بأن جميع القصص يسيِّرها بطل تتشابك عروقه مع نقيضين حُب الوطن وكرهه إن ما لم يقله البطل في (رحلة إلى تونس أو الموت) أو لعله قاله بترويع العُزل بالرصاص الحيّ -إن حبي للوطن يُسوِّل لي أحقية البصق عليه واقتلاع جذوره إن اقضتى الأمر- ! هكذا يرى مكمن الحكمة فهو طوال زمن البحث لا يلتفت إلا لمواطن الجُرح التي حوَّلها التاريخ لنُدبات في قاع جلده ! فكرة الذهاب إلى تونس تُنعش مِزاج المراهقين. عبر هذه القصة نقف على تشخيص منطقي لعلاقة الليبي المعاصر بتونس، كيف يرى الليبيون الآخر ؟ لماذا يزدري الليبي وطنه بينما يُقدّس الأمكنة البعيدة ؟! متى تحوّل بلد عظيم كتونس إلى قِبلة يؤمها الليبيون؟ تساؤلات تعنّ في رأس القارئ وتُمطر على وجه خياله فبعضها مُلحّ وبعضها الآخر يُمكن إرجاء إجابته
جُرعة عالية
أيها القارئ ستستلم للمجموعة وستُسلِّم لجامك لمفاجآت سرِّها الوقت داخل كل قصة منها سيجعلك تصدّق أن هيمنجواي ولد ونشأ في بلاد تُشبه ريح الصحراء، ستجد نفسك تقلق على المكاتبتيّة التي تبتز أقدارها بشفرة الحلاقة حيث تتأوّه (آه لو كان هيمنجواي ليبيًا، آه لو كانت جيلهورن ليبية) تُرى ياعزيزتي المكاتبية هل سينجو هيمنجواي من نقاط التفتيش الوهميّة ؟! ثم ماذا لو سلطات المطار منعت جيلهورن من السفر ؟! إنكِ يا عزيزتي فتاة مشبّعة بالنرجسية تختلي بحبيبها بين رفوف المكتبة العتيقة لكنّ الأقدار تُنجيها من محاولة الانتحار ! لا تخف عزيزي القارئ إنما ستشمّ على الأقل نُباح الكلاب بين الأزقة فهي مَن ستختطف حُب المكاتبية، وفي دوّي فوَّهات البنادق الحديثة تقف حائلا أمام أولئك التوّاقين لتنفس الحرية في تونس الأم الحنون لليبيين كما تصفها لحظة تأمل للبطل بيد أنهم يتحوّلون للقمة سائغة لجوعى الوطن !
يقين القراءة
وسط أجواء قصص النعّاس عنصر يثبت إرادة الجمال ويُبيّن أن للقبح أيضا دور في تحفيز الوعي على البحث عن تلكم الجماليات، فمجموعة مكان لا تجوبه الكلاب تحمل جرعة عالية من المتعة كتجرّع الماء تحت نزيف العطش أو لعق آيس كريم مثلّج تحت طقس أغسطس القائظ، وثق عزيزي القارئ بأنك ستصطدم بذاتك في المرآة فلا تقرأ إلا بوسع يقينك نعم لابد من شيء نوقن حدوثه ولو بدا للعالم مستحيلا، إن المرآة هذه القطعة الزجاجية اللامعة تُجسّد أمامنا نصف الحقيقة أما النصف الآخر فهو مطلق ككبد الصحراء.