زارني صديقٌ لي فَرِحًا،
لِيقولَ لي أنَّهُ حَقَّقَ نجاحًا عَمِلَ لِأجلِهِ سنين.
شاركتُه الفرحةَ مُهَنِّئًا، وقلتُ لهُ فيما قلت:
عليكَ بالصَّبرِ فيما أصابَكَ،
فَأَعظمُ عَطاءٍ يفوقُ ما حققتَ،
هو عطاءُ الصَّبر.
ظلَّ صامِتًا، وهو مَأْخوذٌ بشيْئٍ من الدهشة اُدْرِكُ سَبَبَها،
اسْتَرَسَلْتُ ….. وإنَّك إن صَبرْتَ،
تكونُ قد أنجزتَ أكبرَ مما أنجزت،
فاِن لم تَسْتَطِعْ أنْ تَصبِرَ فَتَصَبَّرْ،
يُصَبِّرْكَ الله، ويُعِنْكَ عليه.
قال لي: لعلَّك لم تفهمْني،
قلتُ بل فَهِمْتُك،
ولذلك هَنَّأْتُكَ،
وأنا فَرِحٌ لِفَرَحِك.
يُخْطِئُ من يَظُنُّ أَنَّ الصبرَ يكونُ على الضَرّاءِ حَسْبُ،
لِمقاومةِ ما تَحملُهُ من اكدارٍ ومتاعِبَ،
فالصَّبرُ يَتعدّى ذلك إلى الصبرِ على السَّرّاءِ،
لمقاومةِ إغرائِها،
والتمادي في سوءِ اسْتعمالِها.
ربما كان من الضرّاءِ حالَ وقوعِها،
ما لهُ من هزَّةٍ عنيفةٍ،
يكون لها من الوقعِ ما هو صاعِقٌ،
كفَقْدِ عزيزٍ او نزولِ مكروهٍ،
فالصَّبرُ اۤنَذاكَ يكون الأصعَبَ، ولو لوقتٍ قصيرٍ،
لكنَّهُ الأكثرُ ثوابًا لِمن صَبَرَ،
وكان صبرُهُ تسليمًا ورضًا.
لذلك شخَّصَ النبيُّ الكريمُ،
هذا النوعَ من الصبرِ تشخيصًا دقيقًا عندما قال:
(اِنَّما الصبرُ عندَ الصدْمَةِ الأولى).
أمّا الصَّبرُ على السَّرّاءِ،
فإنَّه الأَشَقُّ اذا ما عَرِفْنا أنَّه يَتَطلَّبُ من المُسَرِّ،
مُكابَدَةً مستمرَّةً، لِئَلّا تدفعُه هذه السرّاءُ،
الى البَطَرِ والتمادي ونِسيانِ المُنعِمِ،
في الوقتِ الذي يجبُ عليه ان يَصْبِرَ عليها،
وصبرُهُ يَتَجَلّى في تصريفها، وتوجيهها الوِجْهةَ الصحيحة.
فأنت – وأنا هنا أضرِبُ مثلًا واحدًا فقط والامثلةُ كثيرةٌ –
إن حقَّقْتَ درجةً في ميدانٍ من ميادين المعرفةِ،
فصبرُك أنْ تُسَلِّطَ معرِفَتَك على هَلَكَتِها بالْحقِّ،
في الإرشادِ والتعليمِ والعلاجِ وبناءِ الانسانِ والمجتمعِ،
وكلِّ ما يشملُ أوجُهَ الحضارةِ الإنسانيةِ دونَ تمييزٍ،
لكي تكونَ بحقٍّ خليفةَ للهِ في الأِعمارِ،
لِانَّهُ لم يُميِّزْ في نِعَمِهِ على أيِّ أساسٍ غير أساسِ:
(وأنْ ليسَ للانسانِ إلاّ ما سَعى،
وأَنَّ سَعْيَهُ سوف يُرى،
ثمَّ يُجزاهُ الْجزاءَ الأوْفى).
قلتُ لِصاحِبي وأنا أعِظُهُ،
وأعرُف أنّي منهُ الى الموعظةِ أحوج:
كابِدِ الصَّبرَ كي لا تبتعدَ شَطَطًا،
وتفكِّرَ أنَّكَ قد أنجزتَ ما أنجزت،
وحقَّقْتَ ما حقَقْتَ دونَ إرادةٍ سَبَقَتْ،
ومَشْيِئَةٍ كُتِبَتْ، فَحانَ قضاؤُها الآن على يديك،
حيث هُديتَ اليها، لا بل سُقْتَ اليها سَوْقًا.
نعم علينا إن عجزنا عن الصبرِ أن نَتَصَبَّر.
ونحن حبن نَتَصَبَّرُ، إنما نَتَكَلَّفُ الصبرَ،
لمطاردةِ المعاناةِ التي تنطوي عليه.
في التَصَبُّرِ، نكون قد وضعنا على انفسنا قيودًا،
وأقمْنا عليها حدودًا، نقفُ عندها دون ان نَتَعَدّاها،
قولًا وفِعلًا، فيما لا يُريدُهُ من هدانا في سعيِنا،
لنُجْزى ما سَعَيْنا إليه.
فاِن عقدنا العزمَ والنيةَ على ذلك،
سنجدُ المُنعمَ اۤخِذًا بأيدينا،
يُعينُنا على معركةِ الصبر،
بقوةٍ دافعةٍ نعيشها من الداخل،
دون انكسارٍ ونُكوص.
ختامًا اقولُ:
إنَّ ما تقدَّمَ وإنْ كان تعليقًا على حالةٍ فرديَّةٍ وقعتْ لي،
إنما تسري تطبيقاتُها على الأممِ والشعوب،
في القضايا الجَمْعِيّةِ الأعمِّ،
وما أحوجَ أمَّتُنا الى اسْتيعابِ مفهومِ الصبرِ والتَصَبُّرِ،
قبل غيرها من الأمم،
ونحن نعيشُ الذُلَّ والهوانَ وانكسارَ الذاتِ،
وعندنا كلُّ ما يقودُنا إلى العكس،
مجرد ان نُزيلَ الرّانَ الذي غَشّى القلوبَ،
فأفقدنا الصَّوابَ،
وأصبحنا نلوكُ البُؤْسَ بل نستعذبُه، سلام.