قصة

مرايا السحائب (2)

Village under the blood red sky 2019 Ink and Collage on paper Adnan Meatek 30 x 42 cm

هذه مرآة ثالثة من مرايا سحائب أخرى ستأتي لاحقاَ عددها في علم الغيم، ليست بقصص و إنّما كلمات تطلع في كروم من العبارات المعلقة على شرفات مدينة كانت نصف مسحورة اعتلت وجه القمر وعبر عناقيدها ترى ما لا يراه الا القلب وبنصفها الآخر كانت تصبو الى الضوء. كانت مفاتنها بساتين معلقة في ساحة الأفق في ثياب من حرير المسك وفي صدرها رواق مفتوح على النجوم ونافذة المطر. وفي احدى المرات الغيبية ازدانت المدينة بالذبول وشرعت السحائب ترسل لها هوج الرياح القادمة من اقاصي البحار وعسف الزمان.


2- ألغريب في معناه “الأستاذ ايكا”

( وسط رجسٍ من درنة)

كائنٌ يقرأ في ردهة الموج ما يقرأه في أروقة التيهان ، ينسكب على الأرض المدام ويحوم في رقص ٍ بهيج، وقبل أن ينكسر وينداح مطراً في ثيابه المهملة يقتحم الأزقة والجدران والميادين، يدغدغ سيل المدينة الطامي بعد أن سقته أنجم الليل من فيض الشموس كبرياء الظمأ ونغم القناديل، غيمٌ تبلل نقشاً على رماح البروق، يقرأ صبا العمر وطلعة القمر المنير على وجه جذوع التوت عند ديجور المساء، كائنٌ منه العطر يفوح وينحني في السواقي العليّة، يقرأ في عطش الظلام ما يقرأه في بهجة النور، تملأ روائحه الأكوان وجنبات الطريق ويمسح صوته الدافئ رؤوس صِبية الحي القديم، يُغرق اشجار الليمون “الشفشي” با مواجه، يكتوي بتصاريف رغبات السحائب الثائرة، يحاصر موائد الأعشاب فتبتسم له في لهفٍ، كائنٌ يستوطن فضاء السماء ويؤنس الريح في ليالي غربتها، غيمٌ تدور به الأيام والفصول، تجيء به المنافي وتنطوي فيه حُشاشة الأرواح، دهرٌ يمر وآخر يأتي، لم تك حلماً في المرايا، ولم تك تحليقاً في سماوات يهيم في فلواتها “الأستاذ”.

يعرف الأستاذ سالم هذا الكائن مذ شيعته الدروب اليه في مجاهل الدهر ومنذ أن أهاجه الظمأ من وراء أنفاس الرياحين وصبابات أغاني الصبايا، يعرفه منذ أن ذاق طعم رعود الشتاء وثمار السنين العجاف وهذيّ الريح، يعرفه من حافة الأفق في المطر الغامض وحين تبتعد طيور السليوة عن بعضها، يعرفه حين يتساقط على المرافئ الذاوية تحت الريح وفوق قباب الشجر الموحش.

الأستاذ سالم.. يتردد على أحد مقاهي المدينة منذ سنوات وفي كل مرة تخبره المقهى عن ابواب عواصم السحائب التي تفتح ذراعيها لترانيم سحابة تجيء من ضوء الندى لتحقق له أمنية من أماني الأساطير المتدفقة من رحيق مواسم الفصول وارتعاش فرح النخيل ،أساطير تقدم من زهرات الهوى وهي تطرز الأحلام في زهو الصبا تنقب في خيوط الموج عن رمال تأنف الجنون وعن اهازيج سراب بحر يعشق النسمات الباردة، سرابٌ يتأمل سحر رابية عارية ترقص في لهب بارد.

يسمع الى هذا النداء، يسمع عطراً ونغماً، ولكنه عوضاً عن ذلك ظلّ ينتظر من الشمس أن تفتح له أرصفة قلائد الرياح كي يبحر في غيم النهايات وليأخذ حقه من سحائب الفضاء وتهاليل خبز الليل ، تركض به دروب الغيوم الى لا مكان ،تنثال ايامه في براري حبلى بصوت المدينة المثقل برذاذ جنون شطآن مرتجفة بمواويل السكارى المتهاوية من خلل تلعثم أنين “زمارة” تُبحر في هيبة الكلم الباكي وهي تسلم ايام اشرعتها الجوعى لإمر الرياح ومن أنجم الليل تسقيه من كؤوس النوى ومن تعتعة السُكر المشتهى في حضن المُزن وهي تتألق فوق رؤوس المآذن. يسمع ارتطام الدفوف بحرقة الليل المطيرة ويغيب تحت رياح البحر ويظل يجوب بلا تعبٍ أزقة تغطيها فتنة الساحرات بشهوة الليل.

من قيض الصيف وصحو الشتاء اعتاد أن يغزل للزمن أشرعةً للمراكب تحرس المنارات، يستعين بقوارب شجو اساطيرٍ مسكونة بعذوبة انغام الصبوات الغزيرة ، بقوارب المغنين مع الشواطئ وينابيع الرياح الباردة، بقوارب تظل تجيء وتظل تمضي الى بحر دون مرساةٍ، الى بحرٍ تسكنه اللجةُ في مواسم العتمة ومرايا البروق ، تظل تعبر الريح وتحوم فوق رؤوس المنائر المتربة دهراً وأكثر من دهرٍ ولم يرث الأستاذ الا البدد و الرؤى الهائمة خلف أغاني كائنات من غيوم مذهلة واحلام منطفئة.

لا يحس بخطواته ولا خطواته تحس به، يسعى الى المقهى حالماً بدفئها وشذاها، يحمل دفاتر السهر بحثاً عن مستقر في مجاهل صمته وصلابته ، يجلس في سكونِ قلقٍ يتفرج على روادٍ عديدين ، يلعبون الطاولة ، يشربون السحلب، يتكلمون عن كلّ شيء، ينصت ولكن بدون اهتمام، لا يتكلف البشاشة أو يتصنع المرح، يحب صفاء هذا المقهى كثيراً، يختلس النظر الى الباحة المفروشة بالأوراق الجافة المتساقطة من اشجار تخفي رغائبها عن الغيم، رائحة المقهى تغزو سوق الخرازة ، تعبر من الباحة الى هنا وهناك، يقعد على مقعده راضياً ، ينفلت التفرس في عينيه، ينشغل بنظراته على ما حوله، رأى المقهى يسبح في نهر من البخور، للمقهى رائحة اليفة ، يرتطم البخور بشذى الروائح، يسمع الأستاذ سالم صخب السوق، ينزوي في صمت، يرى سمات بعض العابرين يعلوها التعب، صدرت منه ابتسامة عبرت نوافذ بيوت أزقة مغلقة.

يعرفه المقهى شاحباً متوتراً مستغرقاً في غيم الخيال ينتظر الوعد واقداح التعازيم المرتوية بشذى زعتر يستلّ الخطأ نحو سحائب مجبولة بالوهم والعتمة، يعرفه هذا المقهى مبتهلاً لترانيم أذكار “القادرية” أن تصطفيه فارساً لغابة فسيحة تحلق فوق قبابها صلوات ندية وتفتح له أناملها نافذة للغيب وهالة للفجر، يعرفه المقهى باسمه المجبول من اصداف بحر ٍزائف الزبد، يعرفه المطر في تفاصيل الغيم ،تعرفه الغيوم المعلقة في السحائب، وحده الآن يهرب من مرآة رجس عيون المدينة والمقهى حوله ملتحفاً برائحة الأرض والضوء الخافت ، لا يعرف كيف يفتح ابواب عزلته أو كيف يقترب من عالم الناس، او كيف يهجو.

ساقته ذات مساء خطوات اغتالها بحر العتمات الى المقهى مدفوعاً بالشغف الى قهوة مُرّة ، إلى اكثر من “فنجال”، ها هو يرفل في كهف المساء ويصحو على خمرة آذان الجامع العتيق، يجلس فهل يحتفي بالوقت، فالسحائب ترهقها الغيوم والرعود، يطالع في وجوه الحيارى فهل يشرب قهوته على مهل بلا تعب او وجل؟

يغفو الغسق الآن هيمان يناجي مناسك الليل الذي بدأ ينشر عباءته المستفيضة على الشرفات المعلقة تحت أسقف الأحواش وعلى بحرٍ يرتدي رياحاً زرقاء منتشية بوميض السراب وعلى روابي مدينة محفوفة بالسغب القمري، وبينما الغيوم قد اطربها” فرصٌ” تصهل من خلف سور الباحة طفقت تنفض قشورها في الأزقة وتنتخب كؤوساً من ماء شجرته برية تطلّ على الجامع العتيق وقد عانق النور مقلتيها، تصل السماء بالأرض وتعدو خلف سحر سواد عيون الصبايا اليانعات ، تقتحم شبق الحشائش الطرية، يتلألأ فيها شرارة برقٍ تشتعل ابتهاجاً بتوهج مصابيح الباحة الحافية كسنبلة القلب الحالمة نديمها ضوء بَليل يسكر مثل كروم الوديان ويطرب كنقر السليوة في الفجر.

كان يحس بالتعب وما أن أخذ مقعده حتى ارتسمت ضحكة خفيفة على وجهٍ تعلوه ظلال باهتة، جلبة هادئة تنبعث من المقهى، صوت الجلبة يعلو ويهبط، وشوشات ضئيلة ترتفع، استقرّ في مقعده ، بدا هادئاً رزيناً وفي عينيه اعياء، اقترب النادل منه وحيّاه، هبت ريح خريفية، طلب فنجان قهوة حالماً برائحة الذهول، يلتقط الدفء بعينيه ، يصغي الى سحابة مجنحة الأصابع، استرسل في صمته والبروق تتراخى من حوله.

تراءت له المقهى بقعة من سكون اختلط بوميض البرق الخاطف وقد هوى من عتمة الليل، يتناهى اليه شدو المطر من اقسى الباحة وقد طواه موج الغيم الذي اسلم للمُحال ذراعيه،ومن اوكارها المقرورة بالكحل تبعث السحائب بصبية عنبية الشفتين، وردية الخدين، يشجيها نداء الشتاء ويغني لها قنديل أخضر اجتاز السحائب وظل يتبعها اين ما ذهبت، صمت يفور من بين نار الصقيع ونار رموش المصابيح، انكسر الغروب على راحات غبش الظلام وفرش الأرض بغبطة عري الغسق النضر، الضوء الحميم ينبعث مرتعشاً من شروخ المصابيح المعلقة في جيد المدينة المبتسمة في رجس الموج ثمّ يهوي كالطيف في ومضتين .

أثير الظلمة من انفاس السحائب تحبو نحو قباب اسواق المدينة ، تلامس دفق السواقي العارية، الغمام يرفع كأس العناقيد المقطرة أمام حقول النخيل، همسات من رماد الغيم تتبعثر فوق الباحة ” الأندلسية” المتكئة على جدار في رحاب سوق “الخضرا”، تشرب الباحة نبيذ العطر من ثغر المساء، الريح الباردة الخفيفة المفعمة بنشوة المزن تلهث في الأزقة المجاورة خلف قشور الغيوم، ترانيم تتناهى من اغنية قديمة لأم كلثوم تعقد حلفاً مع ضوضاء الصمت، الباحة تلسعها ريح باردة و تشرب من رحيق المقهى قدح سحلبٍ اسكره زنجبيل من نبع حلمٍ من لهب نور حميم خبأته في سواني المدينة صبايا وسط” اِلبلاد” الفاتنات في رفقٍ و بلسم يهتف بضباب البحر وخمرة المراعي.

من مصابيح الأزقة تنساح قطعان انوار أزهريةً وكواكب من فضة سحرتها اهازيج الغيوم، ومن خلف عناقيد الضوء والسحب الصاعدات كان قد أقبل الأستاذ الى المقهى وجلس حيث لا يجلس احد الى جانبه، رحّب به صاحب المقهى كما اعتاد الترحيب به، بعد دقائق كان أمامه” فنجال” القهوة وكأس الماء، يتنسم عطر القهوة، يقايض بالأوهام الأوهام ، الليل يمد سلطانه، والنجم يختبئ خلف الغيم ، يتأمل لحظةً الوجوه التي تسرح امام عينيه، من الناس من يتحدث بمرح ومنهم من يلعب الطاولة بأصابعه المتعبات، ومنهم من يدخن بترفٍ يملأ الفضاء ضحكاً ، ومنهم من يحتسي السحلب او الشاي او القهوة بغبطة الهمهمات، ومنهم من بدأ يتأمل الأستاذ في لحظات خاطفة، ومنهم من يهمهم مع الريح .

ابتسم بمكر تعلمه من غرابة الأيام ودهاليز الزمن ، ذهول ينهمر من عينيه جعله ينصرف عن تأمل الزبائن وعن التحديق الأبله على العابرين، انشغل شارد البال بالنظر في أعمدة النور وهي ترفرف في الباحة الأندلسية عاريةً وتمتد ممزقةً أسارير الغيم، رأى المقهى يستأنس بالزبائن وينتظر شظايا الغيوم، شمم المقهى ينطلق عذباً، تعبق في فضائه اشهى الروائح وتسبح فيه سحائب دخان سجائرٍ تعلو بأجنحتها متسلقة ببطء في الفراغ المضيء حتى السقف الخشبي ثم تسقط على المناضد والكراسي واكتاف الزبائن.

تفرس بالسحائب وتفرست به، طفح الهدوء المستريب على جبينه، يبتهج في الباحة رشاش مطر ينسكب عليه ضوء مصابيح رائقة رقراقة ،جدران سوق الخرازة متوشحة بأطياف من الظلال ، يضيق الفراغ بالأستاذ ، يعتدل بوجهه نحو الباحة وهي ترتدي فضة السحائب الرمادية، يسأل نفسه: منذ متى وهذا المطر يعبر نافذة روحي؟ قال ذاك وقد تشهى أحلى الأماني، تتطلعت عيناه في فرح قلق الى سكون الغيم.

داخ به الزمن ، شيءما كان قد انكسر في حياته. طائرٌ من طيور السليوة الفرحة ضلّ عن عشه في العتمات، كم من مرة نازعته نفسه الى هجر هذه المدينة المليئة بفوضى عربات الريح، الى الترحال في مزارع حنطة منسية تغفو فيها غيمة من شجن، مدينةٌ يحس انّها افسدت عليه امنية من امنيات كثيرة: أن يتغنى بطلاسم اشجارها المزهرات ومناديل نخيلها العطرة، أو ربما يتغنى لوميض قناديلها في اعراس اطفال ليالي “الميلود”، لصباياها الغامرات ببلاسم الوله واهداب العشق، لغناء الحمام في اعالي السطوح، لجوابيها الفاتنات، لصوت ” زمارة” تنهل من ساقياتها النقية أنغام لحن يعشق المحال ولا يُبلى مع صمت موج الأثير.

أوشك اليأس أن يمحو من ذاكرته ظلال العرائش ساعات الظهيرة، وخضرة السواني ورعيان سفوح الوادي وقلائد الياسمين في كل الأزمان ، وعمق دهاليز سحر البحر اللازوردي، ورائحة مردقوش الصباح، وايقاعات اذكار اسبوع الزوايا، وياسمين واديها الذي يتباهى به الربيع والزّنبق والزهر إذ ينثر عطره.

كلما ارخى بخطوه في المدينة بدت له الأزقة والحارات والأسواق موحشة خاوية ، فمنذ أن شاع أنّ مداخن المدينة الرمادية أهدت اليه لقباً جديداً يلاحقه أين حلّ حتى انطوى على احزان لا يشاركه فيها أحد.

أضحت الليالي والأيام ساعات شريدة ،وشرع يتسكع متنقلاً غريباً بين المقاهي والحانات. أدرك أن لا سبيل الى التنفس خارج هذا البحر العميق، نخر العبث في مفاصله، ادرك أنّ عليه أن يتعلم فن العوم حتى ينجو من الغرق . صار المقهى مرفأه الوحيد الذي يبعده عن الفراغ الغبي.

“الأستاذ ايكا” ، اسمٌ كريه، اسمٌ يلوب بين الناس والعفاريت، يتسرب الى منائر الدم في رأسه ليملأها الماً وكدراً. يأتيه اللقب في حمى الماء وجوع الخبز، في صياح الأطفال ، يقتلعه من جذوره ويطير به في متاهات من حجب المفازات ، وقدر المستطاع كان يتفاداه بل ويتحايل عليه مستهزئاً به حيث عند سماعه لذات اللقب يجيب غير مكترث بعذابه اليومي قائلاً: ” متهزي ؟” .

تعلم كيف يحمل جسده فوق عربات هذا اللقب ، وفي احدى لحظات الحصاد، ها هي بيادر التسكع تلقي به في هذا المقهى. عند وصوله كان قد اقتعد كرسياً بنياً، غمره دفء المقهى، أول الدفء يسوق العبير الى سنابل انفه المجعود: القرفة ، النعناع ، الريحان، المرقدوش، الزنجبيل، والخشوع بحضرة الغيم.

قهوة برائحة البن العدني ساخنة للتوّ، نسمة تحاورها القرفة ، يحتسي الفنجان بشغف، صبيةٌ قادمةٌ من الممر الفرح المطل على الباحة ،عيناه تنطقان بالفرح، يرمق بوابة” سوق الخضرا” باشتهاء، بدت الدنيا متلألئة بنجوم ترفرف تحت فستانها الأسود “الزرقاني”، المطر يصير هادئاً يترقب ورد الربيع على غير العادة، انشغل الأستاذ بالنظر الى عينين وهما تلمعان في ظلال الممر الضيق، دخل في صمت عميق ، انفاسه تركض، اقتربت الصبية من شجرة الخوخ الكبيرة، الشجرة مطلية بالمطر، اهتز الأستاذ واتسعت عيناه بالسراب، أحسّ فجأة أنّ شيئاً ما سيقبل من وطن المرايا ومن رحم الثريا، رآها تدنو من تحت رعشات “اللمبات” خافتة الضوء المعلقة بمدائن الباحة، الغيم اللطيف يحمل اسرار الكون، يميد في حمى مواثيقه الخفية، يشرب الأستاذ قهوته على مهل، يفلت من قيد الملل، أسكره السحر خلف مرايا مقلتيها، يلمحها في لحظة تفتح نوافذ الغيب ، تقتادها الريح لشاطئ مجهول، يبوح منها الصمت، الغيم يفجّر حوله أضواء متلألئة، وجهها الحلو ملأ خياله سكونا من مجاهل هذا الكون ، جمح الوتر في قلبه برنين تملّكه الجنون، اعتراه لهيب لحظة عشقٍ تلاشت وذابت ثمّ احترقت اشتياقاً ولم يبق له سوى هذا المقهى والغيم وظمأ قبلةِ سراب قديم لا ينتهي مثل سر البراكين. نجية زرقاء العينين تمر من هنا.

كالرمق المبلل بندى الصباح تمرّ الصبية قادمة من السوق ، تبتسم من عينين سوداويين، تختال بشعرها الكستنائي، صبية حطّت على الباحة من جزر الفيروز وجوف المحال ، ذبحةُ النظرة اليها زادتها ابتساماً، اخضرت الزهور التي كانت قد يبست منذ أيام في “قراريشها” المهجورة بشرفات المدينة، رفع الأستاذ رأسه الى الفضاء برهةً ثمّ لمح عيني الصبية تتزينان للغيم ولغدران نفحة المساء، وقبل أن تختفي تحت السحائب برقت عيناها هذه المرة بأغنية رقراقة واشتد ظلام الباحة يقظةً وطرباً، ودخلت المدينة في ابتهالاتِ ليلٍ لا نهاية له. كتبت الريح على تواقيع اقدام الباحة: يا صبية كيف يقلّ ريحان الغيم جنة البرتقال الى مئذنة تنزف عمرها شدواً لشطآن المنى؟

كالبرق القادم من خلف اسوار مرايا السحائب طلع ” ابو قرين” أحد أعجب دارويش المدينة يحدج بنظراته سوق الخرازة وقد اسكرته الباحة المورقة بالشذى ثم تطلع الى العابرين بشرود وانشد: “فكلي أعين إذا بدا مقبلاً —- كما اذا ناجاني فكلي مسامع”، وكالسهم في فضاء الكون اختفى، دهش الأستاذ وكتم دهشته في صندوق نفسه، ومرة اخرى مع لوامع البرق سمع الأستاذ بوقرين وهو يهذي : ” هل من يطالع”.

ابتسم الأستاذ ببهجة طفل عندما رأى صبية تشبه نجمة بهية تضيء سكون الليل، ابتسم قبل أن تبدأ غربته، ترك لزفزفة الريح أن تعبث بشعره الأسود المنفوش ، اعتدل في جلسته والزبائن يثرثرون ويتهامسون ، حدج الناس بنظرة ساخرة ، تنهد ، صفّق تصفيقة خفيفة براحتيه مرتين متعاقبتين تمايل معها كأنه في حقل زهور، طلب قهوة أخرى، قاد نظراته عبر جدران المقهى، استدار حول نفسه ، ملامحه بدت صامتة ، شاحبة، تتصادم فيها المياه بالشواطئ. دون أن يدري لماذا، بدأ يبتسم ويحب رشفات القهوة والوقت.

أحسّ بارتجاف بعد الابتسام، نافورة من الفزع والفرح والحزن تتدفق في رأسه، أغمض عينيه من تعب أو من ألم أومن أشلاء، توّهم أن يرى الناس اكثر حكمة، لا تزرع البؤس أو الهشيم في بساتين هذه المدينة التي كانت مفتوحة للشمس وللسحائب والبحر والأقحوان والبخور والاشجار المثمرات. مدينة رمتها المحن بالمحن ، مدينة محاصرة في التنهيدة الطويلة وفي رجس البهجة الحمقاء.

جدران المقهى تقرأ ما في رأسه ، أصابته ريحانة الباحة المكتزنة بنشوة ماء الزهر في جوانحه ، رائحة القرفة والزنجبيل تتسلل عبر ممر سوق “الخرازة” الى سوق الظلام بحثاً عن صبية مرّت فقتلت بحسنها النظير فتنة اكليل العشق، فمن أيّ ريح ترسل السحائب شارة “الإمساك عن رؤية السوى”؟

ها هو الذي كان معلماً في احدى مدارس المدينة أضحى ” أهبل” مجنوناً كما شاءت له المدينة أن يكون، راح يتأمل العابرين من مقعده ، يتأمل نفسه، شارد البال ، غضون غائرة متداخلة تتلاقى عند الجبين ، اطياف احلام ، يتذكر أيام كان يقرأ امواج البحر وتماثيل ضوء المنار من نافذة تفتح على “بحر بوعزة”، يتذكر كيف كان يهيم برنين شغب المطر أمام عتبات الزمن القديم، يجلس وسط عالم شديد البرودة، يائساً، يناجي نفسه من وراء ستائر متراقصة وقد غاص في خمرةِ نجمةٍ مخضلةٍ تومئ للغيم بأحلامها: ما جدوى أي تعليم في أناس لا خير فيهم؟ يتذكر كيف كان يلتقط من البحر رسائل الموج القادمة من زمهرير الغيوم.

يحزنه الهوس العالق في المدينة عند كل رشفة من القهوة. يقعد متململاً ، اشعث الشعر اسوده، ضيق العينين زائغهما، متوسط القامة، اجعد الأنف، ترتسم على وجهه ابتسامة غامضة جريئة، يرتدي جاكتة رمادية بالية وقميص ازرق ، له ربطة عنق سوداء رثّة ورثها عن خاله ، يساوره الملل، عضلات وجهه تموج بمطر الترقب، فضاء ضوضاء المقهى يتكلم بلغة صامتة فقدت شهية الكلام، تنهّد وغاص في دوائر الظنون.

في رأسه المتصدع تمرّ هواجس مضطربة، تهتف به الهواتف، في داخله غضب وحنق، صخب وعبث، له كبرياء يقاوم هذه الغيوم، قامته اكبر من الألاعيب المضحكة، يدرك أنّ العيون تحاصره، لا يبالي تعلّم أنّ خشيتها لا يعني إلا الخيانة العمياء للمصابيح المشرقة أو هكذا يساهي نفسه، يستمع الى ما تعده به طيور السليوة من هزيمة الغبار ودحر الظلام ، تعلّم كيف يحتال على السحر بالسحر.

أخذ يتكلم مع نفسه عندما أرهقه الملل، مرق العابرين والزبائن والمشاكسين ، تابع يكلم نفسه: هل لي أن أصدق أنّ حياتي مجرد اسم برقع وسراب بقيع وربما احلام عابرة ، ذاكرة متنقلة، ارتياب ، هجير، خواء، تفاهة، هل لي أن لا اخشى مصيري، أن لا اعرف أيّ شيء ، أن لا أبالي إن متّ انتظاراً، فما الذي يحدث في هذه المدينة اللزقة؟

كانت رائحة مطر الباحة تملأ روحه بعبق الكلام المتطائر: ما الذي يزرع هذا العراء القاحل في مدينة كانت كبستانٍ في فردوس من الخيال؟ وما الذي يجديه هذا اللقب النكير وايّ متعة يجدها أغبياء الناس في تلاوته؟ بعض القامات تغذي السير صوب جامع العتيق، أحسّ بهذيان أكثر، حام ببصره عن المقهى، شعر بثقل في لسانه ثمّ اسرع في الكلام: أينما أذهب وأدب تتداعى عليّ الكلاب والفئران وكلما فتشت عن جسر تحاصرني الفئران على ضفتي المدينة ، كيف يمكن لمدينة أن تخترع انساناً ليس ذاته، “الأستاذ ايكا”؟

اندفع نحو الصمت وظلّ يتأمل في الصمت اصوات قناديل تومض على ابواب جامع العتيق بينما تنساب في سوق الخرازة آيات دافئة من ” الكهف” تتوهج بالمستحيل في تلاوة للشيخ محمد رفعت تنسكب من قدح مذياع قادماً من خلف جدران الباحة تنعش الدّم في يقظة النسيان. صوتٌ مشرقٌ مثل الياقوت قادماً من العرش.

السحائب المعلقة في هوة السماء والدفء المتشرد يرقبانه، عيونه مطرودة بين الريح والمطر الخفيف الذي بدأ يظهر في الفضاء منذ برهة من جديد ، أرخت دوالي الغيوم عناقيدها على الباحة والأزقة ، ثمة غيمة حائرة ظلت معلقة على بوابة السوق ، أحال ضوء مصابيح الباحة بلاط الحانة الى بساط من فضة ، في داخلة تثب عباءة مهردلة، يحدج العابرين بنظرة ماكرة فيها بحيرة حزن حائرة، ابتسم لهسيس نسمة طائشة، احتسى ما تبقى من فنجال قهوته مرة واحدة برشفة اثيمة. فاجأه المساء وحيداً ، يتهاوى الزمن في داخله بسهولة، توّهم هذه المرة أنّه يرى العابرين يمرقون نحو كهفٍ يأوي حية رقطاء.

يترقب في صبر انطواء آخر ذيول الغروب ، يراقب الناس باهتمام وقلق ممل، والغيم في افق الباحة يهيج وراء الغبار والقتامة ، سمع الآذان في ينابيع الآذان، آذان “الباز” ، وقف فجأة وهو يترنح ويبتسم ، مضى في ممر السوق ، دلف سوق الظلام ، مرق بزقاق ضيق يصل السوق بالجامع العتيق، أبصر كوكبة من القناديل المعلقة يداعبها ريح خفيف يسري في خطوطها قمح الفجر الفضي يرتدي بردة مطرزة بالأزهاير ترتد اشعتها منعكسة على وجه “سي خرزوللي” وهو يهوي بشغف بأصابعه في صنع قنديل آخر، شيّع الصانع “الأستاذ ايكا” بنظرة كبريق القناديل المتلألئة ، لمحه وهو يدنو من باب الجامع العتيق متباطئاً يجر قدميه وهو يتمتم: ” يا هذه المدينة الى متى تظلي تهذي ولا تسكتِ” ، غيمة حائرة من مرايا السحائب رفرفت امام نافذة قلبه واجابته في هدأة ليل متنسك : ” يا هذا اغترب عن وطنك المألوف .. إلى وطنك بالتحقيق”، داعبه بخور الجامع وقذفت به الغيمة امام المحراب ، تلقف ” أبو القناديل” الحروف وهي تمور بالبروق، وسرى في خاطره كلام ما هو بالكلام ، ثمة قنديل ينشر نوره من بين الأنوار كي يقتاد الظلام خارج السوق، هبت نسمة باردة ولم تلبث الرياح أن بدأت تدمدم ، تقدمت قطرة مطر تحفظ تفاصيل خبايا السحائب واسرت في في مسامع حائك القناديل” سي خزروللى” اسرار النجوم وحثته على أن يترقب بقلبه سرب الشتاء، وفي رجفة اضواء القناديل انصت ” ابو القناديل” لرنين المطر ودخل الجامع يحمل شموع الوقار ومشى فوق بساط مدثّر بالبخور وصلى خلف إمامة الحاج” ستيتة” صلاةً قادته الى موقد المحبة ومفازات المواقف.

لهجت المدينة باسم ” الأستاذ أيكا” وترنمت به، رسمته فوق الرياح حتى استقر على غيمة من بياض القناديل ، وظلّ الأستاذ يعطف على الناس ويغفر لهم ويبتسم كلما سمع أحداً يدعوه “ايكا” ، ودأب على أن يبتسم للقناديل والجامع والأحذية والمصلين والعصافير، ومن السحائب كان يأتيه صهيل ألف جواد، خبأته الرياح في اعالي المآذن، مع الرياح ابتعد ومع السنين مضى ومع سلام الروح آثر الصمت مثل كلّ دارويش المدينة.

 وكل بيت في المدينة لم يتطهر بعد من رجس صلبه حياً.

مجنون مضى في العتمة والقمر بيده ، مضى وقد انشق روح المطر في ” الباحة الأندلسية” لغيابه، مات فوق سواعد رمال الليل وهي تلهج باسمه في حضرة الثلج : ” يا هذا ! أنت الغريب في معناك”.

مقالات ذات علاقة

شمس

محمد المسلاتي

حكاية شاعر آخر

محمد النعاس

تَكَدُّسٌ ..

جمعة الفاخري

اترك تعليق