قصة

ريحانة الجبيلة

من أعمال التشكيلي الليبي توفيق بشير
من أعمال التشكيلي الليبي توفيق بشير

اقتربت من المرآة بخطوات متراخية، أخذت تتفحص جسدها، دنت أكثر حتى كاد صدرها يلامس المرآة، ابتسمت لضفائرشعراسود طويلة، ولعينين كحيلتين مبهرتين يفترسان اصوات المآذن، ضفائر منسدلة مثل خيوط الغيم على كتفين ناعمين تسترسل مثل شلال مترنمٍ مرحٍ الى خصرها، تسرح شعرها باصابعها الرقيقة المزدانة بالحنة، ترخي شعرها يسقط على نهديها، ابصرت في المرآة اعراش اعناب،  ولوزتان، وخوخ وتفاح وقطوف دانية وانفاً رقيقاً ساحراً ووجنتين يشتهي نبيذ الحقول خمرهما، رأت نفسها كأنها فتاة هبطت من عوالم اساطير حوريات الأنجم، داعبت أهدابها، استعذبت فراديس الأساطير، سمراء، فارعة، أصابع رقيقة،  أظافر أنيقة، شفتان خمريتان تلمع بين ضفتيهما أسنان براقة كلؤلؤ الثلج، الغرفة عتيقة، من خزانتها القديمة تفوح روائح المرّ واللبان والجاوي و”الوشق”، ومن شعرها المخملي و ثنايا ثوبها الزيتي ينبعث عطر العود والمسك والبخور، أيقنت أنّها حلوة وأنّ ثغرها يذوب في كأسه سرّ الخمر، ودّعت المرآة، وانسحبت خارج الغرفة،  لفّ وسط الحوش ببردته جسدها الفياض، أحست أنّها تشعر بدفء غامض ينبعث من السحائب،  تعالى همس الريح واريج شذى الياسمين، وهنا ترنّم القطر عندما مست شفتاه وجنتيها، انسلت من الحوش،  غمرتها اشعة شمس الغروب الباردة وهذا رذاذ المطر المتراقص يشاكس غروب الشمس، خرجت ولم ترتدي معطفها هذا المساء، خرجت في بشاشتها ووداعتها، تنقش على الطين فتنة عروس تقتفي الحسناوات اثرها،  وجدانها يسوقها نحو سانية “سي منيسي” ألمفتحة لنقر مطرمتسارع، نقر متقطع متسارع يزيل أتربة الخريف ويختبىء خلفه غسق يشرأب تحت زخات مطر خفيفة تخترق رفيف الأفق.

استنشقت “ريحانة” الهواء والغيم الحميمي يعبر السماء، مرقت من الزنقة المزدحمة بالمارين المدلهمين والعربات وقليل من خيول “الحناتير”، تواصل سيرها المتمهل الآن في دلال ونغج، عيناها فيهما رغبة سكر في حقل زهور يدب فيه نرجس وكافور، في مثل هذه الساعة من كل يوم تذهب الى سواني “الجبيلة” التحتية، خطت خطوات أخرى وكانت عند السانية،  تفتحت وردة في احداق الصبوات حرقة، احست “ريحانة كأن السحائب ارسلتها الى حقل تنبثق فيه الغرائب وبراءة مكر الصبيان، سانية قرب سانية يطلع عليها القمر في كلّ شهر، ويصلي في محرابها قمر غجري، تبعت “ريحانة” عيون حائرة تتهاطل وتنكسر على مرمى جسدها الفتان،  تحس بعيون المارة، تحس بغزارة العربدة النافرة،  استقبلها هتاف رنين السواقي، وكالفرح البرتقالي نسيت العيون ودنت من جناح الساقية المياد.

جلست تحت شجرة توت، خلعت نعلها الجلدي،  أهدت قدميها الى ماء الساقية المنهمر نحو مشاتل السواني، ومن السماء تستطع عليها النسائم والأضواء، من ضفة الساقية المجاورة تطل عليها نرجسة جذلانة وتهفو، موج الساقية يداعب ساقيها، ملء عينيها شوق الى نوافذ النجوم المفتوحة على همس الريح وهي تنسج اغنية نشوانة بزهو الخريف في سقف السماء، خلف السحاب يتلأل طير السليوة، نسمة تداعب عينيها، تتحرق شوقاً الى شهد رضى شفتيها، تفتح أوراق “نوار العشية” ازهارها متحدية ظمأ الخريف لتحميها من عيون العابرين، تداعب الماء نشوانة ويداعبها، تتأمل دفق الماء في خريره يفررقراقاً من بين قدميها،  خفقان الخرير يلهث كجواد اسود يسابق المفازات، تتزاحم فوق ثغرها العنبي الكلمات اللذيذه ،  تذكرت دفوف مطر الليلة الماضية، ولما تذكرت ، تساءلت: هل تقرأ قطرة مطررقراقة ما تكتبه على راحتي وردة ياسمين عند كلّ نقرة؟ فبأي لغة يتحدث المطر الى عطر الحقول؟، وهنا، ها إنّ ريحانة هنا، يسمعها الكحل والعطر والمطر والنسيم واغصان اللبلاب ومنحدرات الأزقة، يجري عطرها في جدائل الساقية، تسمع صياح الصبيان ، تتأمل اشباح الغيوم، انتفضت حمامة فوق شجرة التوت،  وبدأت تتجول فوق الغدران الوديعة، سياحة الغمائم اختفت.

يتمرّغ صوت”ريحانة” الوردي على خمرة شفتيها،  أقبلت رياح الغروب على كتف الشفق المرسوم في الربيع الخريفي، سحبت”ريحانة” قدميها الغامرة بالبلل، وقفت، أعطت لكلّ برتقالة في السانية عرجون، انتعلت حذائها الرملي، قفزت برشاقة الى ضفة الساقية الأخرى، حاكت الغيوم للطيور رموشاً رمادية، الغسق الغائم يشعل شجرة التين بضوء صمت الغروب، فتح الهباء ذراعيه و اودع في صدرها نار أحلام طفلة كتبت اسمها في راحة البيارق، ألقى بها بين “جداول” سانية سي منيسي، سانية نمت في في حوضها عرائش وكروم، تعالى همس الريح، ومن ضفاف أفق الغيوم انهمر صفاء ارجواني، استباح من خديها فيض صبابة زهرة نرجس أطلت عليها منذ برهة جذلانة، نشوة غيمة سارحة على ابواب السواقي تعلقت بوردة عذراء معلقة في الفضاء ورشفت من عطرها رحيق الفلّ والنّدّ و أثير “المرقدوش”، ترنّم العشب النضير لسحر خطوها،  تداعب انامل الريح ضفائرها، وكلما لثمت خديها ازدادت وروداً.


(مقطع من قصة قصيرة طويلة نُشرت عام 2010 على صفحات ليبيا المستقبل وصفحات ليبيا وطننا لم أغير أي حرفٍ فيها).

مقالات ذات علاقة

حرب السلاطين

محمد المسلاتي

ثلاثُ أرباع قصة

محمد دربي

زهرة الرِيْنش

أحمد يوسف عقيلة

اترك تعليق