قراءات

من وحي رواية طريق جهنم

المناضل علي العكرمي ورواية طريق جهنم.

 500 صفحة، في كل صفحة، بل في كل حرف رحلة ألم ومساحات من الوجع، وفضاءات للآهات والأنين، تشعر أن العبارات تخنقك وهي تعبر إليك لتستقر عندك هناك في أغوارك، تحمل لفحا من هاتيك العذابات وتمر عليك ثقيلة ثقل هاتيك السنين العجاف، الموجعة حد النزف، كيف لا، وهي تصور مشهديات مرعبة وأحداثًا مفزعة، تعجز كل أفلام الرعب أن تبلغ معشار عشرها. لكن رويدك.. فما ستقرؤه ليس خيالا ولا كوابيس في المنام ولا هي تحليق من كاتب لمشاهد تراجيدية في رواية مأساوية قدمها مخرج مبدع. إن ما تقرؤه وقائع وأحداث حقيقية، شخوصها بشر مثلنا، منا وفينا لنا معهم صلات وتربطنا بهم علاقات، لهم قلوب طيبة وأرواح سامية وأنفس زكية، لهم أسر وعائلات، أصحاب وأحباب، جيران وأقارب، عندهم أحلام وطموحات، أهداف وغايات، بين ضلوعهم قلوب لها مشاعر وفيها أحاسيس، ولهم عقول تحمل أفكارا، عندهم مواهب ولديهم قدرة على العطاء والإبداع. وهؤلاء لهم تفاعل بناء مع أرضهم وشعبهم وأفقهم الذي أرادوه رحبا وأراده أعداء النور ضيقا حرجا. آه وأواه كأنما أسمع صرخاتهم وصدى أناتهم، وأرى وجوههم النيرة وقد كساها الحزن وخيم عليها القهر، لا لشيء إلا لأنهم أرادوا أن تحيا بلادهم عزيزة كريمة لا ظلم فيها ولا استبداد، ينعم فيها إنسانها بإنسانيته. أرادوا أن تكون حركتهم في الحياة، حركة بناء وعطاء، صلاح وإصلاح، لكن الفرعون أرادهم أن يتحركوا وفق هواه وأن يدوروا في فلكه ويسبحوا بحمده ويتحولوا إلى آلات خراب ومعاول هدم، وفوق ذلك عليهم أن يقرعوا له الطبول ويزينوا له باطله ويشيدوا له أمجاده. لكن هؤلاء الكرام أبت عليهم نفوسهم الأبية أن يرضخوا لأوامره ولم يرضوا أن يستمرئوا الهوان ويعيشوا معيشة الذل والهوان، فما كان من ذلك الطاغي الباغي الذي يرفع نفسه إلى مصاف الكمال وينزلها منزلة العلو، ويرتفع بها فوق مصاف البشر، وقد تدثر بالكبر وتأزر بعظمة زائفة اقتبسها من إبليس اللعين, ما كان منه إلا أن قيد هؤلاء الأحرار ورماهم في غيابات السجون، وسقاهم من كأس المرارات أصنافا من القهر تنوء بحمله الجبال، جعلت بعضهم يتخطفه الموت في أروقتها المفزعة، وأصاب آخرين عاهات في أجسادهم جراء ما صلوه من عذاب، وآخرون خرجوا أحياء وعانقوا الفرح من جديد حاملين معهم أثقالا من ذكريات الوجع الأليم. امتداد هذه الرحلات التي قدمت ومضات عنها وكتبتها بمداد الوجع النازف، امتدت 42 عاما من السنين، أبطالها نخبة من هذا البلد الطيب، مفكرون، علماء، شباب، كهول، شيوخ، كتاب مبدعون، عسكريون، مدنيون، والموقع سجون سيئة الصيت وعلى رأسها سجن بوسليم، في هاتيك الأحداث كان هناك أيضا، مجرمون سجانون، جلادون، قادة للواء العقيد الساعون لتثبيت حكمه ودوام ظله، وما علموا أن له موعدا لزوال ملكه ونهاية مصيره.

هاتيك الأحداث سجلها بقلمه المبدع الكاتب الكبير أيمن العتوم في روايته طريق جهنم من خلال شهادات لكثير من السجناء السابقين وعلى رأسهم المناضل الكبير: على العكرمي الذي قضى 30 عاما في سجون القذافي وكان له دور كبير في رصد ورواية العديد من الأحداث حول تلك المحن. الكاتب سجل هذه الأحداث في 81 فصلا أبدع في رسم المشهديات وسبر أغوار الوقائع ونقل لنا صورا مرعبة لهاتيك الأجواء مع تشخيص لشخصية القذافي وتصوير لنفسيته المضطربة، وفيها رسائل لا تخفى على أولي الألباب. إن الظلم هو أس الخراب ولب الفساد وأنه لا يدوم، وأن الحق ينتصر ولو بعد حين.

مقالات ذات علاقة

قراءة في المجموعة القصصية للخيال العلمي للقاص الليبي عبد الحكيم الطويل

المشرف العام

“ألف داحس وليلة غبراء”: الفيتوري… حطّاب في غابات ليبيا ومتاهاتها

المشرف العام

“عشبٌ نافر في مقبرة”… قراءة في ديوان (ماذا صنعنا بالشمس)، للشاعرة: هناء قاباج

مفتاح العماري

اترك تعليق