سرد

من رواية التابوت الثاني

صورة من أعمال المصورة سارا كمال
صورة من أعمال المصورة سارا كمال

مساء قالت لي “بتول” بوثوق حزين:

– أنت تسعى لترميم روحك، إن هذا لا يخفى عليّ، ولكن لابد أنك تعرف أن دمار الأرواح لا يمكن ترميمه، حتى الذين نجحوا في ترميم أرواحهم لم يعودوا لسابق عهدهم..

قالت ذلك وابتسمت ابتسامة صغيرة متألمة وأخفضت جفنيها. استطعت أن ألمح رفيفا هينا تحت أهدابها. انتظرت أن ترفع عينيها نحوي مرة أخرى لكنها غرقت في صمتها. مع هذا، ظلت نبرة صوتها الواثق تنقل لي شيئا من قوتها المتوارية وراء هذا الصمت.

كانت “بتول” تلبس فستانها الزهري نفسه الذي نامت به قبل أكثر من عام، ليلة سفري إلى حرب الصحراء، أذكر كيف كنت أنظر إليها مرتديا ثياب الجيش وهي نائمة في ذلك الفجر وهي تتنفس كطفل رضيع وجبينها مكسو بحبيبات عرق صغيرة مثل نثار الفضة. لا أدري إذا كانت قد ارتدت هذا الفستان على نحو متعمد الآن لتردني لتلك الذكريات حين وقفت أمامي قوية بعد أن أفاقت فجرا وهي تشيعني بنظراتها المودعة. داهمني شعور أدهشني في هذه اللحظة أنها كانت يقظة في ذلك الصباح البعيد قبل أكثر من عام ولم تكن نائمة كما توهمت.

حديثها الآن حول محاولاتي لترميم روحي أفزعني، لم أكن أدري أنني صرت مكشوفا أمامها إلى هذه الدرجة وأن حطام نفسي غدا واضحا للعيان. مهما يكن الأمر، فحديثها الآن أمدنى بقليل من الثقة، قد أنجح في ترميم روحي كما نجح غيري من الجنود العائدين من الحرب، ولن يكون ذلك غريبا ولكن ضريبة العودة لحياتي المعتادة في ورشتي أكلت جزءا آخر من روحي كما أكلت الحرب جزءا أكبر، أنا لا أكثرت الآن بشيء، حتى ذكرى موت “بشير” وجمعة”  صار لا  يترك ذلك اللهب الصغير الذي يؤجج انبعاث تلك الأحداث في يقظتي ونومي، أجل أنا لا أكترث الآن، كما أنني لا أثق في شيء ولا أقترب من أحد بسهولة بالرغم من يقيني من أنني سأفقد الكثيرين من حولي ولن أستطيع ان أحب شيئا بكل جوارحي، أمر غريب أن يتحول الإنسان إلى كائن لا يحب ولا يكره ولا يغضب ولا يعرف حتى ما إذا كان غاضبا أم لا..

لقد كانت “بتول” صادقة” في قولها، كل الذين نجحوا في ترميم أرواحهم لم يعودوا كما عرفتهم من قبل. الحرب تكسر في الأرواح شيئا لا يمكن إصلاحه. الحرب والحب كلاهما يحطمان في النفوس أشياء لا يمكن ترميمها. لطالما كانت “بتول” تجيد فن الحياة وسبر أغوار الناس أكثر مني. حتى “عبد العزيز” الذي حاول شنق نفسه ونجا من الموت لم يفلح في ترميم نفسه بالرغم من تظاهره بذلك بعد أن أغلق دكان القصاب وافتتح ورشته الصغيرة لتصليح دراجات الأطفال..

مقالات ذات علاقة

رواية ديجالون – الحلقة 6

المختار الجدال

أجمل فتاة في المدينة

عبدالله عمران

رواية الحـرز (44)

أبو إسحاق الغدامسي

اترك تعليق