مشيت بخطوات واهنة. لازالت الأفكار السوداء تجتاحني وبقايا ليلتي الآرقة تنهك جسدي. حالة من اختلال الوزن والتفكير وسلامة القرار جعلتني أقف صامتاً مغمض العينين. القشرة التي تغلف مخي تنزاح مع ازدياد سيطرة النهار الصيفي الوليد على المدينة والغرفة وسرير “بتول”.
خطر لي فجأة أن أحلق ذقني. نعم يجب أن أحلق ذقني وشاربي الناعم. في الجيش لابد من حلق شعر اللحية والشارب كل يوم، وأحيانا مرتين في اليوم. ولكن ماهي علاقة حلاقة الشعر بالحرب؟.
في المعسكر يقولون إن حلق الشعر يعطي الجندي هيبة وأناقة، ويُعلمه النظام والحفاظ على المظهر الرسمي للجيش. أضحكتني العلاقة بين فكرة الأناقة وشخصية الجندي.
على أي حال سوف أحلق ذقني فقط وأبقي على شاربي. أجريت يدي على جانب وجهي. ألفيته خشنا. كان ملمسه مثل ملمس الفرشاة المعدنية التي أكشط بها الصدأ عن قطع الحديد في الورشة. عُمْر الشعر النابت على وجهي يوم واحد فقط ولكني سأحلقه. أطلق باب الحمام صريرا خفيفا مثل صوت لعبة أطفال. واشتم أنفي رائحة ملابس وسخة وعطر صابون وعبق ماء كماء البرك الآسنة. رائحة معجون الحلاقة امتصتها فتحات أنفي مع دفق الماء، وشعرت بها حارة كرائحة النعناع المجفف. أجريت الشفرة على وجهي. سقطت أول كتلة من رغوة الصابون. نزلت مع حركة شفرتي مخلوطة بحبيبات الشعر الحليق من على وجهي إلى الحوض. كانت رؤوس شعري المحلوق تظهر من خلال الرغوة البيضاء مثل تلك النقاط السوداء الصغيرة التي نراها تظهر مع أول قضمة من موزة. تراكمت في الحوض رغوات الصابون البيضاء المنقطة بالسواد. حلقت وجهي ودفقت الماء وخرجت. ثم رجعت إلى حيث تنام “بتول”. لبست بذلتي العسكرية أو بذلة الحرب.
لم تشعر “بتول” بحركتي وأنا أنضو عني ثياب الليل الناقصة وأرتدي بذلة الحرب. خُيّل إليّ أن رائحة معجون الحلاقة الباقية على وجهي نفاذة الآن، ولكنني فكرت فجأة بأنني أبدو مخيفاً، وأنا أبدو كجندي يتأهب لخوض غمار حرب.
تقدمت نحو “بتول” النائمة. نظرت إليها وهي تتنفس بلا صوت. كان وجهها الجميل النائم ساكنا. ولكن وقوفي بجوارها وهي نائمة بدا لي أشبه بمشهد ليس له ما يبرره. إلا أنني لم أجد عندي ميلا إلى تصديق نفسي بأنه حدث من الأحداث التافهة التي تمر بها حياتي منذ سنوات. لم أحرك ساكنا وأنا واقف أنظر إليها. خطر لي على نحو جاد ومثير أن هذه الفتاة النائمة أمامي الساكنة هي “بتول”.
___________________
* من رواية ”التابوت“
المنشور السابق
المنشور التالي
عبدالله الغزال
عبدالله الغزال، ولد بمدينة مصراتة في العام 1965م، تخرج من كلية الهندسة، وعمل بأحد الشركات النفطية، قبل ان يتوجه للعمل بالتعليم العالي. نشر نتاجه الأدبي بالصحف والدوريات المحلية والعربية. حصل على جائزة الشارقة للإبداع الأدبي في دورتها السابعة؛ عن رواية (التابوت) في 2003م، ثم حصل في ذات الجائزة، في دورتها الثامنة، في القصة القصيرة، عن مجموعته القصصية “السوأة” في العام 2004م.
صدر له في القصة (السوأة)، وفي الرواية: القوقعة، الخوف أبقاني حياً، التابوت، كُناش الخوف، كيف تقتل امرأة.
- تعليقات
- تعليقات فيسبوك