حسن إدريس
هود القادم من أقصى الجنوب، أو من أقصى الجمال إن شئت، هو ظاهرة حرية بالدراسة عن قرب، وتجربة فريدة جديرة بتسليط الضوء عليها، ذلك أنه خرج من تلك القرية الصغيرة في وادي الشاطئ (إدري) -والتي عرفتها شخصيا من خلاله-، هود يكتب نصا يسافر خارج حدود المكان الذي يعيش فيه، بل وحتى خارج حدود الزمن الذي نعيشه نحن في كثير من الأحيان، استمع إليه وهو ابن تلك البيئة النائية إذ يقول:
مساؤك فيروز تغني
وكاظم يغني
وأحلام تغني
وجورج
ثم اسمع لهذا الوصف السيريالي الكوميدي الساخر، الذي هو من دعاباته المسلية رغم يقيني بأنه ما كتبه إلا لفرط الوجع:
ولأكن مثل برج بيزا
فإن العيش لا يستسيغ
إلا الميولا
واستمع له حين يجسد لك الشتاء الذي لا يمر من إدري إلا خلسة، ثم يجبرك أن تتنفسه وتشتمّه رغما عن أنفك:
آه لو تدركين برد امتناني
لتنفست من شعوري شتاء
ألا يخيل إليك أن من كتب كل هذا إما أن يكون في أحد شوارع بيروت، أو في أحد مقاهي الدار البيضاء!
*
يقول الرافعي: “الشاعر الحقيقي هو من تمر الألفاظ بعقله مرور المادة في المصنع فتخرج وعليها طابعه”، وفي الحقيقة يكتب هود نصا خارج الصندوق، واستطاع في نظري أن يصنع لنفسه شيفرة خاصة به عليها ختمه، ويرسم لنفسه طريقا لم يمر منه غيره، ألا ترى معي أنه غاب عن عنترة هذا المعنى الذي انتظر مئات السنين حتى يظهر به هود في قوله:
قد انسلخت مني إلى القاع جلدتي
وهذا سواد القاع
هذي هي العدوى
ثم استمع له حين يتلاعب باللغة والوزن معا في موقف يرسم الحيرة والارتباك والتردد وكثيرا من المرادفات التي لا يفسرها ويصفها إلا قوله:
أحب أحب
النظرة النظرة التي
تذيب تذيب
الواله الواله العذري
ثم لعلك تسمع صدى هذه الصورة في قوله:
ردد الكون سرنا
مثلما لو
ليس للحب غيرنا مفردات
وأخيرا يجسد معنى اليأس في جملة ليس فيها سوي الحزن حاضرا:
باسمك الله
أبصر الموت حبلا لنجاتي
فهل تطول النجاةُ
ثم هو يصور شوقه لأحلامه وحاله معها بقوله:
لشدة أن النفس
حرى تشوقا لأحلامها
أحلامها تتبخر
أما هود النقاء فيقول:
هيكلٌ، ما لم أكن أحمل حزن
أخي، أو ضحكه في بدني
نحن أبناء القرى تنحرنا
طلقة تخدش أهل المدن
وأخيرا فإن هود في الغالب يكفينا مؤونة الكتابة ومشقتها حين يعبر عنا جميعا فيكتب عنا وعنه كما في قوله:
لم تعترف بي بلادي مشمسا،
يدها
للآن تبعدني عنها وتؤصدها
وربما تكون لي وقفات أخرى مع ما تحمله جرار هود، فالكثير الكثير منها ما هو حري بالإشارة والاحتفاء.
2-1-2021