قصة

قرار بلدية عين الطير

من أعمال التشكيلي الليبي محمد التومي
من أعمال التشكيلي الليبي محمد التومي

في نجع عين الطير تندلق الأسرار هكذا دفعة واحدة دون أن يستطيع أحد أن يخفي شذرة واحدة منها، فإخفاء سر من الأسرار يُعد جريمة يعاقب عليها العرف بالنبذ والتقريع، وتوجه لصاحبها تهمة خدش الفضيلة، إذْ أن من أهم مقومات الفضيلة هي الوضوح التام أي ما يعرف بالشفافية، ذلك المفهوم الذي ظهر حديثاً وتلازم مع مفاهيم الديمقراطية.

قالت الجدة الرابعة قبل وفاتها:  “ما من كبيرة أو صغيرة تحدث في النجع إلا ويُلقط خبرها كما تَلقط عينُ طائر جارح صورةَ أرنبٍ من علوٍ شاهق، وما يُهمس من قول أو يَخرج من درهم، أو تسقط من ورقة إلا ويعلمونها”، وفسرت بذلك سر إطلاق اسم عين الطير على النجع، وحتى بعد أن تبدلت هيئته وأصبح فيما يشبه القرية بعد أن شُيدت فيه بيوتٌ متفاوتة التواضع، ظلت جميعا تشترك في الحفاظ على مواصفات النجع فلا تقفل أبوابها لا ليلاً ولا نهاراً، بل لا يدخل إليها ساكنوها إلا ساعات الهجيع، وما أن تشرق الشمس حتى يهب الجميع إلى الخارج، يتجالسون في مطارح الظل صيفاً ودفاءة الشمس شتاءً، يلوك الرجال أحاديث متكررة بين رشفات الشاي المعقود، وتتخذ النساء مجلسهن في ركن آخر تتعاون بعضهن على تنقية الشعير، أو يدعكن الثياب المتسخة في طشت الغسيل، بينما تتكئ بعضهن في تكاسل يرضعن صغارهن، أو يراقبنهم وهم يلعبون بالحصى والتراب.

بعد أن تحول النجع إلى قرية في منتصف السبعينيات تذوق أيضاً طعم الديمقراطية في منتصف الثمانينيات وعلقت له يافطة مكتوب عليها: “بلدية عين الطير” وظل يحافظ على مبدأ الشفافية كأهم مقومات الديمقراطية.

ذكرت نشرة أخبار الساعة التاسعة من القناة الوحيدة أن قواتاً غازية دخلت إلى جزيرة ماكوندو التابعة لدولة صديقة شمال الأرجنتين، وجاءت التعليمات لمجالس البلديات بسرعة الانعقاد لاتخاذ القرار في شأن خروج تلك القوات من الجزيرة، وأسوةً بكل البلديات عقدت عينُ الطير جلسةً طارئة، ثم قرأ أكثر الرجال فصاحةً قرارَ البلدية بعد أن تلا وثيقة العهد والمبايعة أعقبتها عاصفةٌ من التصفيق والهتاف الحار، ثم قال:

 – نؤكد نحن سكان بلدية عين الطير على ضرورة خروج القوات الغازية من جزيرة ماكوندو فوراً فوراً.

وشدد على الكلمة الأخيرة، ورددها أشخاص آخرون بنبرة ملتهبة. لكن أكثر الرجال فطنة رفع يديه بشكل متعامد وطلب نقطة نظام فأذن له، فقال:

– أيها الأخوة كيف نطلب منهم أن يخرجوا فوراً فوراً؟ هكذا بدون ترتيب أو تنبيه للنساء، فكيف يخرجون من الجزيرة وهناك على شواطئها نساء تنقّي الشعير وبعضهن ناشرات الغسيل وبعضهن يا جماعة يرضعن أطفالهن ويلاعبنهم على الرمال؟؟

سكت أعضاء المجلس شاعرين بالتهور في قرارهم واقترحوا تعديل صيغة القرار ثم قرؤوه برضاً وارتياح:

– نؤكد نحن سكان بلدية عين الطير على ضرورة خروج القوات الغازية من جزيرة ماكوندو، وبدون كلمة فوراً.


من المجموعة القصصية: العالم ينتهي في طرابلس، صدرت عن: #دار_الرواد 2020م

مقالات ذات علاقة

لا خيار

غالية الذرعاني

بوابة جُحا المعرفية

محمد دربي

جنون الحب!

غالية الذرعاني

اترك تعليق