الطيوب : حاوره / مهنّد سليمان
من نبوءات ماريش في الزمن الغابر وجموح الخيال في أحداثها إلى الغارقون في الساقية واستقامة شطط الأسطورة مع الحاضر الراهن حيث يُغيّر المكان جلده بخفة قصوى ومحنة تتخفى في دثار يسخر من الجميع، يوسف إبراهيم شاعر طوّع الرواية كما القصيدة من قبلها بحس ذكي ونسق سردي يفتح لقارئه الأبواب بتحدٍ….كاتب تنوعت تجاربه في ميادين الأدب والشعر والتقديم الإذاعي والتدريس الأكاديمي، مؤخرا فازت روايته المعنونة (الغارقون في الساقية) بجائزة أحمد إبراهيم الفقيه للرواية في دورتها الأولى لعام ٢٠٢٢ التي نظمتها شبكة الطيوب الثقافية…وفي هذه البسطة الحوارية نلتقي به ونفتش ما بين السطور.
حدّثنا عن تفاصيل مشاركتك وفوزك بجائزة أحمد إبراهيم الفقيه للرواية؟
سعدت جداً بالإعلان عن انطلاق جائزة الفقيه للرواية، وكعادتنا دائماً نتوقع لكلّ مشروع ثقافيّ في بلادنا أن يتعثّر وربّما يفشل، فقرّرتُ أن أساهم في نجاح الفكرة، بالمشاركة فيها، وقد كان. الفوز بالجائزة كان حدثاً محتمل الوقوع ولكنّه لم يكن هدفاً في حدّ ذاته. وأنا الآن فخور بفوزي بالجائزة في دورتها الأولى واقتران اسمي باسم أحد أهمّ أعلام الرواية.
تعتمد في روايتك (الغارقون في الساقية) على ثيمة تأمّليّة تفتح الأفق على مجموعة من الحكايات المتفرّفة، هل تمنح الأبعاد الأسطوريّة للعمل الروائيّ سقفاً سرديّاً عالياً؟
التأمّل هو جوهر الإبداع؛ لأنّه مقدّمة للاختيار والاختيار هو الإبداع بعينه، بدءاً من اختيار موضوع العمل واختيار النوع الأدبيّ (القالب)، واختيار ما سيَظهر وما سيُضمر في العمل، وصولاً إلى اختيار كلّ جملة وكلمة وعلامة ترقيم. التأمّل هو الفرن الّذي تنصهر فيه خبرات الحياة مع القراءات السابقة مع اللاوعي مع التراكم المعرفيّ؛ لإنتاج سبيكة نقيّة يخطف ألقُها بصرَ وبصيرة المتلقّي. أمّا الأسطورة فهي قصة –قد تكون واقعيّة إبّان نشوئها- مزيدة ومنقّحة آلاف المرّات عبر العصور؛ لذلك فهي هديّة التاريخ الإنساني إلى السارد، شريطة أن يضعها في مكانها المناسب وضمن مقادير دقيقة لطبخة السرد وفقاً لطريقة تحضيرٍ خبيرة.
تتميّز (الغارقون في الساقية) بإيقاع مرن بين الشخوص والأحداث، أَساعدك ذلك على تماسك البناء الفنيّ أكثر؟
البناء الفنّيّ هندسة، يسبقها تخطيط. الرواية –في عمومها- خطوط تبدو متوازية إلى أن تلتقي كلّها في النهاية، أو قد يلتقي بعضُها قبل ذلك. المرونة ضروريّة لمتعة القراءة بشرط عدم الإخلال بالسمات الرئيسة للشخصيّات وعدم المساس بتدفّق نهر أحداث الرواية، إلّا إذا كان ذلك هو مقصد العمل الروائيّ نفسه. ليس هدف الكاتب أن تكون الرواية متماسكة شكليّاً؛ إنّما هدفه أن يكون صداها في مزاج المتلقّي –بعد القراءة- مبهجاً له ولائقاً بمقامه.
ماهي الرسالة المبتغاة من (الغارقون في الساقية)؟
المتعة. أن يقرأها قارئ ما في مكان ما في زمن ما، وأن يشعر أثناء وبعد قراءتها بغبطة ما بسعادة ما بفرح ما: تلك هي رسالتها (رسالتي عبرها). لم أرِد منها أن تكون وعظاً ولا توجيهاً ولا رأياً سياسيّاً ولا إصلاحاً اجتماعياً. فقط كنتُ مستمتعاً وأنا أكتبها بمرح، وأردت لها أن يقرأها قارئُها بمرح وفرح وبهجة يجدها في صدره مثلما يجد بهجة حبّ جديد.
التنقّلات المكانيّة لشخصيّة “المهدي” الرئيسة في الرواية أضفت رمزيّة مزجتْ ما بين السخرية من حدود الجغرافيَة وبين الفنتازيا، لماذا اعتنيت بهذه الجزئية؟
الزمان والمكان -أي التاريخ والجغرافيَة- وجهان لعملة. التنقّل يضفي تنوّعاً في ديكورات المسرح، ويزخرف الأحداث ويدعم الحبكة، ويقوّي فرضيّة أنّ الإنسان قد يتفاعل مع مكانه، فيأخذ منه ويعطيه، دون أن يتغيّر جوهر المتفاعِل ودون أن ينقلب المتفاعَل معه إلى مكان غيرِ المكان. أمّا الفانتازيا فأمر آخر، نعيشه في خيالاتنا وفي أحلامنا أحياناً، نتجاوز به الطبيعيّ والمنطقيّ والمألوف؛ لنؤلّف تفاصيل حكاياتنا رغماً عن أنف الطبيعة والمنطق والشائع السائد، نحن نفاجئ أنفسنا بكسر القواعد وثني المسارات المجهّزة مسبقاً.
نلحظ قدراً من الاغتراب عن البيئة المحليّة في الرواية، لماذا؟
كلّ البيئات في العالم هي بيئة محلّيّة، لا فرق عندي. تحضرني استنكارة للمقهور: “الإنسان اللي في (باريس) عالمي، واللي في (تاجورا) مش عالمييي؟”. كوكب الأرض كلّه بيئة محلّيّة لكلّ إنسان. المكان الّذي يحتضننا هو بيئة أليفة، والمكان الّذي يجفونا هو بيئة وحشيّة. الاغتراب حالة نفسيّة داخليّة، هو شعور، أو هو انعكاس ما هو خارجيّ على الداخل. في (الغارقون في الساقية) تحضر البيئة الليبيّة –وغيرها من بيئات- كمسرح لأحداث، وكمادّة تاريخيّة وحكائيّة، وكهمّ إنسانيّ عامّ.
من خلال مكانتك كشاعر وروائيّ أين تجد موقع الرواية الليبيّة عربيّاً وعالميّاً؟
الرواية الليبيّة لا تشتكي من شيء. عربيّاً: يعوزها أن تنتشر، وعالميّاً: تنقصها الترجمة وتحتاج الانتشار.
هل تحضّر لعمل جديد؟
أعمال. قبل نحو عام كتبتُ مسرحيّة في ثلاثة أيّام (من دون معلّم!)، ولديّ عدّة أعمال روائيّة في مرحلة البحث، وبعضها لم يبقَ إلّا أن أكتبها.
كلمة أخيرة:
شكري الجزيل لمؤسّسة الطيوب الثقافيّة على هذا اللقاء، وعلى (جائزة الطيوب) بفروعها المتعدّدة؛ لأنّها بهذا النشاط تنقلنا من السكون المطبق إلى الحركة المثمرة، وأتمنّى لهذه البداية أن يكون لها استمرار ودوام انتصاراً للتراكم على الركام، وأقول: إن كان ولا بدّ من رقابة على الكتاب في ليبيا فلتكن رقابة موضوعيّة (لا ذاتيّة مؤدلجة ومتسلّطة) ينظّمها قانون يكفل حقّ المؤلّف في الطعن والاستئناف، وأختم بالقول للحكومة ولوزارة الثقافة: (تعلّموا من بلد الطيوب) !.