شخصيات

النجمُ الذي أفل

محبةٌ واحترامٌ ودعمٌ وتشجيعٌ أبرزُ العناوين(*)

الدكتور الصيد أبوديب

الحياةُ أُضمومةُ حُبٍّ وتعارفٍ وصُدَفٍ وصَداقاتٍ نبيلةٍ نتداولها وتُهديها لنا الأيام غالباً دون سابق تمهيد أو تلميح، مثل عديد الأقدار والأحداث والمواقف، ولعل من بين هذه المصادفات الجميلة التي وهبتني صداقة ودودة مع شخصية اتسمت بالمثابرة والعشق للوطن فصاغته كتاباتٍ صحفيةً، ونشاطاتٍ فنيةً مسرحيةً ورياضيةً، ودراساتٍ أدبيةً واهتمامات تسجل سبق توطينها الأدب الليبي في التعليم الجامعي ألا وهي شخصية الصديق والأستاذ الدكتور الراحل الصيد أبوديب رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.

يرى البعض أن أهمية العلاقات والصداقات ليست مرتبطةً بطول مدتها الزمنية أو ظروفها أو مناسباتها ولكن بما تمثله لكل طرف من محطة فارقة في حياته، وإني لا أدَّعي معرفةً قديمة وطويلة بالراحل الدكتور الصيد أبوديب، ولكن ما أسطره بهذه الكلمات التوثيقية حول علاقتي به والتي عنونتها (محبةٌ واحترامٌ ودعمٌ وتشجيعٌ) ليست من باب الإطراء الزائف، أو المجاملة المتملقة، أو التبجيل غير المستحق لرجل غادرنا إلى مسكنه الأبدي الأخير ولا نملك له إلا الدعاء بالرحمة والقبول والمغفرة، بل هي توثيق وتسجيل لمواقف شخصية واقعية وأحداث معايشة أحسبها قليلاً من الوفاء، والتقدير، وكلماتِ حقٍ، في رجل قدَّمَ لي شخصياً كلّ العون والمساعدة والدعم والتشجيع في المجال الأدبي، وبالتالي فإنَّ من واجبي ولِزَاماً عليّ أنْ أكون باراً به، ومُحسِناً إليه، ووفياً لرحلة صداقتي المتميزة معه، والتي تأسست على المحبة والجدال والحوار والنقاش والاحترام المتبادل، بلا غايات أو مآرب نفعية مادية، كما أنها في جانب آخر، مثل العديد من العلاقات بين أناس آخرين، لم تخلو من الاختلاف في الرأي، والخلافات الشخصية البسيطة أثناء العمل التي سرعان ما كانت تزول في أول لقاء أو مكالمة هاتفية بيننا أسمع فيها صوته وضحكاته المجلجلة.

لقد تعاطى الأستاذ الراحل الدكتور الصيد أبوديب مجال الكتابة والأدب منذ بواكير دراسته الجامعية عندما أصدر أول كتبه قبل تخرجه من كلية الآداب بجامعة بنغازي سنة 1968م حول الشاعر الراحل (أحمد قنابة)، كما تقلَّد مهام رياضية بنادي المدينة “بباب ابحر” مسقط رأسه، وشارك في العديد من الأعمال المسرحية الفنية، وكلُّ هذا يؤكد بأن فقيدنا كان شعلةً من الحماس، وغزارةً في المواهبِ والهوايات، وفيوضاً من العطاءِ في العديد من الفنون، وهذا مؤشر يبرز همته، ونباهته، وروح التعاون الساكنة فيه، التي نالت محبةَ وقبولَ الآخرين له، وذلك لما يحمله من خلق نبيل، وفكر مستنير منفتح على الآخر يبرهن عليه اتساع مشاركاته في الأعمال الجماعية المختلفة.

ولكلِّ ذلك فإنني أعتبر نفسي محظوظاً حين تشرفتُ بمعرفة وصداقة الأستاذ القدير الصيد أبوديب التي بدأت أواخر تسعينيات القرن الماضي حين كنتُ أعمل طباّعاً لدى دار الطالب للطباعة وخدمات التصوير بقلب حي الظهرة والكائنة بوسط شارعها الرئيسي “شارع خالد بن الوليد” لصاحبها صديقي وعرفي الحاج “أبوبكر حمودة بن عمر” حيث كنا نتعامل مع كل شيء يتعلق بالحرف والورق بداية من طباعة الطلبات الشخصية وحتى الكتب والدراسات والأطروحات الجامعية والمجلات والتقاويم والإعلانات وغيرها. وفي تلك الفترة كان الدكتور الصيد أبوديب مديراً لتحرير مجلة “الفصول الأربعة” الصادرة عن رابطة الأدباء والكتاب، ويبحث عن جهة فنية تتولى طباعة المجلة الأدبية المتخصصة، فحضر ذات مساء إلى مقر الدار متأبطاً حافظةً بها عدداً من مخطوطات الكتابات والمقالات والمسودات، راغباً المساعدة في طباعتها وإخراجها وإعدادها للإصدار والنشر. كنتُ حينها مشغولاً بطباعة ديوان الشاعر الراحل الدكتور عبدالمولى البغدادي “على جناح نورس”، واستكمال بعض التعديلات التي أجريها على مجاميع الأديب الكاتب عبدالله مليطان (وقتها لم يتحصل على درجة الدكتوراة) إضافة إلى غيرها من الأعمال الأخرى، ولكن تلبية لتعليمات عرفي وصاحب الدار بعد أن اتفق مع الدكتور الصيد أبوديب على التكاليف المالية ومواعيد التجهيز، استلمتُ الحافظة وباشرتُ طباعة محتوياتها من مقالات وقصص وقصائد شعرية ودراسات بحثية على الحاسب الآلي وإعدادها وترتيبها لعملية الإخراج التي كانت تتم بحضور الدكتور الصيد أبوديب شخصياً في جلسة لا يخلو منها العلم والظُرُف والتعليقات والابتسام والحوار الممتع الشيق بيننا.

لابد لي من الاعتراف بأنني كنتُ مستمتعاً جداً بذاك العمل بصرف النظر عن مردوده المالي، لأنه أولاً كان يتيح لي مطالعة المجلة قبل صدورها، وثانياً فتح لي أبواب حوارات مع أديب وأستاذ عريق، وصجفي قدير، ومدير تحريرها حول بعض مواضيعها وتقنيات العمل الصحفي ومهاراته، وفي المقابل أزعم أن الدكتور الصيد أبوديب كان كذلك سعيداً بدقة العمل وسلامته بعد أن وجده خالياً من الأخطاء النحوية ومرتباً ومنظماً ومنسقاً بشكل فني أعجب به، فصار يوجه لي طلبته في الدراسات العليا لطباعة أطروحاتهم لدي ومن بينهم على سبيل المثال الدكتورة محبوبة الرياني والدكتورة بلسم الشيباني والدكتور نوري عبيريد اللذين صاروا أساتذة متخصصين في الأدب العربي بقسم اللغة العربية وكسبتهم أصدقاء وأحبة ودودين في رصيد علاقاتي ومعارفي.

كان العدد رقم 82 الصادر في يناير 1998م هو بداية تعاوني الأول مع الدكتور الراحل الصيد أبوديب في طباعة مجلة (الفصول الأربعة) بدار الطالب في الظهرة، والتي تواصلت حتى سفري لبريطانيا في أبريل 2002م لاستكمال دراستي العليا في مجال تخصصي العلمي وهو الأرصاد الجوية. وطوال تلك الفترة كان حضوره إلى مقر الدار لمتابعة جاهزية طباعة مواضيع كل عدد يمنحني فرصة لمزيد التعرف عليه من خلال بعض الحوارات والنقود لمنشورات المجلة أو القضايا الأدبية الأخرى، وقد صارت إطلالته الباسمة وخطواته الهادئة تبعث الكثير من البهجة في فضاء العمل حتى مع الزملاء بالدار، خاصة حين يتصادف وجوده مع الصديقين العزيزين الدكتور عبدالمولى البغدادي رحمه الله والدكتور سعدون السويح أثناء متابعتهما طباعة ديوان “على جناح نورس”، مما وطّن انسجاماً وتوافقاً روحانياً وفكرياً بيننا، تخلق ودياً وتفاعل سريعاً ليصنع كيمياء قبول واستجابة مشتركة في جوانب فكرية عديدة.

وأثناء طباعة مجلة الفصول الأربعة كان الدكتور الصيد بوديب حريصاً جداً على البدء أولاً بطباعة مقدمة العدد التي كان يكتبها رئيس التحرير المشرف العام الدكتور الراحل علي فهمي خشيم طيب الله ثراه وقبل غيرها من المواضيع، حيث يأتي الدكتور الصيد لاستلامها بوقت مبكر ومتسع لعرضها عليه ومراجعتها. وقد أخبرني في إحدى اللقاءات، إثر عدة أعداد قمتُ بتجهيزها من المجلة بأن رئيس التحرير الدكتور علي فهمي خشيم بعد أن تابع مهارة ودقة الطباعة للمجلة، يرغب في الالتقاء بي والتفاهم على الطباعة وغيرها من الأمور، وقد كنتُ سعيداً جداً بهذا، لأنه يمنحني شرف التعرف أكثر إلى قامة أدبية وفكرية أعتز بها كثيراً. وفعلاً رتّب الدكتور الصيد أبوديب موعداً في إحدى الأمسيات الصيفية لمقابلة الدكتور علي فهمي خشيم في مقر رابطة الأدباء والكتاب بطرابلس، والذي كنتُ قد التقيته قبلها مرة أو مرتين بمكتبه رفقة صديقي الدكتور سعدون السويح أثناء زياراته لطرابلس خلال الإجازة الدراسية في الجامعة المالطية التي كان منتدباً للتدريس بها.

ذهبتُ في الموعد المحدد رفقة الدكتور الصيد أبوديب في سيارته “المرسيدس” التي كانت عرضة للكثير من تعليقاتي، للقاء الدكتور علي خشيم الذي استقبلني بتواضع العلماء الحقيقيين، ورحب بي بكل حرارة، وأثنى على مستوى الطباعة والمراجعة اللغوية، وأبدى ارتياحه التام عن ذلك، فشكرته باسمي وباسم دار الطالب وصاحبها عرفي الحاج “ابوبكر حموده” ودار بيننا حوار متنوع حول العلم والأدب والثقافة ومهارات الطباعة التي ظل يسأل عن أدق تفاصيلها باعتباره صحفياً عريقاً، ورساماً ومخرجاً مارس مهنة الصحافة منذ بواكير نبوغه وولعه وشغفه بها. وخلال الحوار الشيق الممتع معه حول الأدب والشعر عرضتُ عليه نصي (تمهلْ أيها العاشقُ دوماً) المُهدى للدكتور سعدون السويح فسٌّرَ به كثيراً، متوقفاً ومعلقاً بالتأكيد على بعض مفرداته اللغوية، وعارضاً بكل سرور نشره بالمجلة، إلاّ أني كنتُ آنذاك قد أرسلته لصحيفة العرب اللندنية للنشر بها، كما ذكَّرته بدفاعه المستميت عن رواية (متى يفيض الوادي) للأديب صالح السنوسي وظهوره على شاشة المرئية وهو يخاطب الحضور أمامه وجمهور المشاهدين بشيء من الثورة والغضب ويناشدهم (أستحلفكم بالله أن تقرأوها) فسألني الدكتور خشيم .. أي والله ورب الكعبة .. تصورواً أن العالم الجليل الدكتور خشيم يسألني أنا!! ويقول لي (قل لي يا يونس .. كم عمرك في ذاك الوقت؟)، ثم تجرأتُ وبادلت سؤاله بسؤال حين قلتُ له: لماذا لا تكتب سيرتك الذاتية يا دكتور؟ وفعلاً كأنه استجاب لرغبتي وسؤالي الاستفزازي حين أصدرها تحت عنوان (هذا ما حدث) سنة 2004م ووصلتني نسختي الخاصة في بريطانيا حيث كنتُ أواصل دراستي.

بعد إنتهاء ذاك اللقاء التاريخي بالنسبة لي ودَّعتُ الدكتور علي فهمي خشيم رحمه الله وركبتُ السيارة “المرسيدس” مزهواً مع رفيقي الدكتور الصيد أبوديب، وشكرته على صنيعه الطيب وإتاحته الفرصة للالتقاء بالعلامة الكبير، وتقديمي بكل الاشادة والثناء، استمر بعدها التواصل بيني وبين الدكتور الصيد أبوديب والمناقشات والحوارات وحتى المشاكسات اللذيذة حول العديد من المواضيع طوال طباعة أعداد مجلة (الفصول الأربعة)، ومن بينها نقاشنا عمَّا كتبه الدكتور العراقي عبدالإله الصائغ أستاذ الأدب العربي بكلية التربية بجامعة طرابلس سابقاً، عن الشاعر العربي الكبير نزار قباني، وما مدى صدقية ما أورده عنه في تعقيبه المعنون (نزار قباني وعبدالمولى البغدادي … والقصيدةُ وأنا) على قصيدة (بكائياتٌ أمام مقام العشق النزاري) للشاعر الراحل عبدالمولى البغدادي والمنشور مع القصيدة في كتاب قمتُ بطباعته سنة 1999م وأصدرته مكتبة طرابلس العلمية العالمية حين كان مديرها ضو تيبار رحمه الله.

وأيضاً عند طباعة العدد رقم 86 من مجلة الفصول الأربعة الصادر في شهر يناير 1999م حدث نوع من التحدي بيني وبين الدكتور الصيد أبوديب عند نشر قصة (موتُ سعد البكوش) للأديب الراحل كامل المقهور والتي كتبها في العاصمة الايطالية روما سنة 1998م وأهداها للصحفي الكبير الأستاذ محمود البوسيفي، فقد كنتُ أرغب في حذف عبارتين وردتا وسط القصة رأيتهما خادشتين للحياء، وربما يسببان مشكلة للمجلة مع إدارة الرقابة على المطبوعات  تؤدي بالتالي إلى قرار منع توزيع عددها، مثلما سببته القصة نفسها عندما ضمنها الدكتور عبدالإله الصائغ كتابه (إشكالية القصة وآليات الرواية) الذي تناول فيه دراسة أعمال القاص كامل المقهور الصادر عن دار النخلة للنشر سنة 1999 حيث منعت الرقابة على المطبوعات الكتاب من النشر والتداول بعد طباعته، بسبب العبارتين الواردتين بالقصة على لسان “الشيخ” أحد شخصياتها والتي تقول الأولى وهو ينادي “موسى” زوج “مغلية” حرفياً (يا تيس .. يا بو القرون)، أما العبارة الثانية فكانت كلماته التي يتغنى بها لزوجته (لُطفية)حين يخاطبهامتدللاًعليها (حُولِي حِرِيرْ وَانْتِي زِقْطَاطَا … بَزَازِيلِكْ زَيْ البَطَاطَا) وتقبّل أستاذي وصديقي الدكتور الصيد أبوديب ملاحظاتي ومخاوفي بكل استحسان إلاّ أنه قرر الإبقاء على العبارة الأولى وحذف الثانية، متحملاً بكل شجاعة مسؤولية ذلك، وفعلاً استجبتُ لرغبته وأبقيتُ العبارة التي طلبها كما هي بالقصة، وصدر العدد وتم تداوله بين القراء دون أية مشاكل، وجائني يوم صدوره ضاحكاً ومقهقهاً فرحاً .. ومنتصراً. وقد نُشرت القصةُ لاحقاً كاملة سنة 2000م  بالمجموعة القصصية للأديب الراحل كامل المقهور (يا سمي صبي المي) وتشمل ستة قصص هي (محبوبة، الرقية والرجال الخمسة، صخرة المصير، القبر، يا سمي صبي المي، الزمزامات) إضافة إلى رائعته (موت سعد البكوش).

ولمَّا كنتُ أحظى خلال أحاديثنا ولقاءاتنا الدورية بدروس وتوجيهات مجانية من الدكتور الصيد أبوديب في مجال الأدب والشعر باعتباره قامة من قاماته وأحد أساتذته بالجامعات الليبية، فقد استثمرتُ كل تلك اللقاءات والفرص لتطوير قدراتي الأدبية خاصة فيما يتعلق بالمناهج والتحليلات النقدية، وأدواتي الفنية في الكتابة والنشر بالمطبوعات الليبية والعربية، وانتهزتُ كل سانحة لأطلعه على كتاباتي المختلفة حيث نتناقش حولها ونرصد الخلل الذي قد يظهر بها، والإشادة بجمالياتها أو تحسينها، ومن ثم يوجهني ويخبرني عن مدى صلاحيتها للنشر من عدمه سواء بمجلة الفصول الأربعة أو يقترح إرسالها إلى مطبوعة أدبية أو صحفية أخرى.

وفي العدد رقم 84 من مجلة الفصول الأربعة الصادر في شهر يوليو 1998م نشر لي الدكتور الصيد أبوديب ولأول مرة بمجلة (الفصول الأربعة) مقالتي (“وأخيراً طلع القمر” حوارية بين الشاعر الكبير المرحوم نزار القباني والدكتور سعدون السويح)، وقد أصر على أن يظهر لقب الشاعر العربي الكبير معرفاً (القباني) بدلاً من المشهور والمعروف به (قباني)، وأذكر أنني حين سلمته صورة مستنسخة من جريدة الحياة اللندنية المنشورة بها مقالة الدكتور سعدون السويح المعنونة (إيقاعاتُ الأنوثة والتصوف في شعر نزار قباني) التي أشعلت حريق الخلاف بين الشاعر العربي الكبير والصحيفة اللندنية، وتهديده لإدارة تحريرها بإيقاف كتابة زاويته الأسبوعية بها، أنبهر الدكتور الصيد أبوديب بها، وأصر على إظهارها برفقة مقالتي، وعمل شخصياً على إخراجها ووضعها في المكان الذي عليه بالصفحة.

بعد ذلك توالت منشوراتي بمجلة (الفصول الأربعة)، منذ العدد رقم 87 الصادر في شهر أبريل 1999م حين نشر لي نصي (الطلقة الخطأ)، وحتى العدد رقم 110 الصادر في يونيو 2006م عندما نشرتُ مقالتي المطولة (الصادق النيهوم بين المقال والقصة) التي راجعها وأثنى عليها، وأفادني بعدة معلومات وملاحظات استفدتُ منها كثيراً في قراءاتي وتحليلاتي البسيطة لمقالات وقصص الأديب الراحل الصادق النيهوم.

وأثناء طباعة الفصول الأربعة عرض علي الدكتور الصيد أبوديب تعديل مخطوط كتابه (معجم المؤلفات الليبية المطبوعة في الأدب الحديث) فقمتُ بإضافة وطباعة مسودة ورقته المعنونة (بيلوغرافيا الرواية الليبية المطبوعة 1937-1998) التي أعدها وقدمها ضمن فعاليات (ندوة الرواية العربية وقضايا الأمة) التي نظمتها رابطة الأدباء والكتاب بطرابلس خلال شهر يوليو 1999م وغيرها من الإضافات التي استحدثت حتى سنة 2000م، وحرصتُ على إنجاز ما طلبه مني وتجهيزه في الوقت الذي حدده، وقد استحسن ذلك تماماً وخصَّني بشكر وتقدير مع آخرين يقول فيه (والصديق “يونس شعبان الفنادي” الذي طبع الاضافات والتنقيحات في شيء من الصبر ورحابة الصدر) على الصفحة التاسعة من الكتاب الذي صدر لاحقاً سنة 2006م ضمن منشورات مجلس الثقافة العام.

ولما كنتُ قد جمعتُ نصوصي التي أحسبها على جنس الشعر بين طيات ملف، سلَّمتها له لإبداء الرأي وتشريفي بكتابة مقدمة لها، فقبل رحمه الله ذلك، ولبى طلبي ورغبتي بكل تواضع ودعم وتشجيع، وهو القامة الأدبية الكبيرة ذات المشوار الطويل في مجال الأدب والكتابة والصحافة، وقدَّم لكتابيّ الأول الذي صدر سنة 2010م عن الجمعية الوطنية لرعاية الشباب بعنوان (لعينيكِ أغنِّي) الذي أهديته (إلى ليبيا ولادة النجباء على مر التاريخ)، وأصررتُ على إظهار اسمه مع اسمي على غلاف الكتاب الخارجي (تقديم د. الصيد محمد أبوديب أستاذ الأدب العربي، كلية التربية، جامعة الفاتح) ويقول في مقدمته التي أهداها لي بعنوان (هذا الديوان هذا صاحبه) وكتبها في 5/2/2001م (.. إذا كان صاحبُ هذا الديوان يتعامل مع الطبيعة في السماء وعلى الأرض من واقع دراسته العلمية وتأهيله الأكاديمي، فهذا الديوان جعله يتعامل معها شاعراً رومانسياً يحسٌّ بها تشاركه أحاسيسه ومشاعره، أفراحه وأحزانه، عازفاً مع نسيمها ورياحها وأعاصيرها، فارشاً سحبها ونجومها، ساهراً مع قمرها وسحره، مناجياً شمسها ودفئها).

ويضيف قائلاً (ولم يكتفِ صاحبُ الديوان بذلك فقد آثر أن يغني للوطن كما يغني للحبيبة، والإنسانُ بطبعه يعشق الغناء، لأن فيه حياةً أخرى منشداً ومردداً ومستمعاً. يطرب للأصوات الشجيّة، ويرهف السمع للألحان الحزينة، يتداخل عنده حبُّ الوطن بحبِّ الحبيبة، لذلك إنْ تَغَنَّى لها فذلك يعني أنه يُغني للوطن، فالوطن في الروح كما الحبيبة في القلب، وهو ما يفصح عنه عنوان الديوان (لعينيكِ أُغنِّي)، وهو ما يبوح به صاحب الديوان (يونس شعبان الفنادي) الذي يغني لعينيّ حبيبته، كما يشدو بالغناء (لعينيّ ليبيا) … الولاّدة للنجباء على مدى التاريخ – كما يقول في إهدائه – وهذه درجة عالية وسامية من درجات العشق.).

وعندما أكملتُ مخطوط كتابي (النصُّ الشعريُّ عند سعدون السويح) حملته إليه في مقر الهيئة العامة للثقافة سنة 2006م تقريباً، وسلمته له طالباً مراجعته وموافاتي بملاحظاته حوله، فقام بذلك ولازلتُ أحتفظ بتصويباته واستبدلاته التي سجلها على بعض صفحات مخطوط الكتاب الذي صدر بعد سنوات طويلة عن دار الرواد سنة 2013م.

وفي سنة 2009م حين سافرنا معاً إلى مدينة بنغازي للمشاركة في ندوة الصادق النيهوم شجعني أثناء تقديم ورقتي (المقال والقصة عند الصادق النيهوم) وأثنى عليها في مداخلته، ثم في جانب آخر دعاني للجلوس معه على المنصة ومشاركته تقديم المحاضرين في إدارته لإحدى جلسات الندوة الأدبية حول المفكر الراحل، كما ترافقنا لمشاهدة مسرحية (هبوط اضطراري) بالمسرح الشعبي ببنغازي صحبة ثلة من المشاركين في الندوة أبرزهم الدكتور علي فهمي خشيم والدكتور أحمد إبراهيم الفقيه والفنان أحمد الغزيوي رحمهم الله جميعا والدكتورة فاطمة الحاجي وآخرين.

وفي سنة 2010م حين تولى الإشراف على الفعاليات الأدبية المصاحبة لمعرض طرابلس الدولي للكتاب في دورته العاشرة. اختار ورقتي (الوفاء للمكان والبيئة في حكايات شارع الغربي) للأديب خليفة حسين مصطفى ضمن ورقات العرض في محور محاضرات السرد والرواية الليبية، وكانت هذه المرة الأولى التي أشارك فيها في فعاليات ثقافية بدورات المعرض.

وحين باشرتُ إعداد وتقديم برنامجي التلفزيوني (المشهدُ الثقافي) على القناة المرئية الوطنية كان لابد أن أختاره ضمن كوكبة أدبية بدأت بالشاعر الراحل عبدالمولى البغدادي وانتهت بالدكتور جمعة عتيقه وشملت الفنان علي العباني والمحامية عزة المقهور والراحل الدكتور محمد مسعود جبران وغيرهم، فوجهتُ له الدعوة التي لاباها بكل سرور دعماً وتشجيعاً لي، وشرفني بأن حل ضيفاً على الحلقة الثانية من البرنامج التي سجلتها بتاريخ 26/8/2010م ومحاورته حول موضوع (غيابُ النقدِ وتأثيراتُه). وبعدها بسنوات اخترتُ كتابه (القضاءُ والقضاةُ في برقة وطرابلس) الصادر سنة 2009م عن المؤسسة العامة للثقافة ليكون ضمن حلقات برنامجي المسموع المسجل (كتابُ اليوم) الذي أعددته وقدمته على أثير إذاعة صوت طرابلس المحلية سنة 2017م.

أما في رحاب الجامعة، ففي نهاية سنة 2016م وتحديداً صباح يوم الإثنين الموافق 28 نوفمبر 2016م استضافه مختبر السرد والدراسات النقدية في حوار انتظم بكلية اللغات بجامعة طرابلس تحت إشراف وإدارة الدكتورة فريدة المصري أستاذة الأدب العربي لمناقشة موضوع (الروايةُ الليبيةُ: تاريخٌ.. نقدٌ.. تجربةٌ) بحضور الأديب الروائي محمد المغبوب. وقد كتبتُ على صفحتي بالفيس بوك عن ذلك اللقاء الممتع قائلاً (استمتعتُ كثيراً بما عرضه الدكتور الصيد أبوديب من توضيح موثق وسرد إحصائي وتاريخي لمشوار الرواية الليبية، وحسم بما عرضه من إصدارات قديمة أحضرها من مكتبته المنزلية الخاصة، الجدل التأريخي المتعلق بصدور أول رواية ليبية، أهي رواية (مبروكة) للمرحوم حسين ظافر بن موسى أم رواية (اعترافاتُ إنسان) للراحل محمد فريد سيالة؟) وأضفت مشيداً مثنياً عليه (أشكر الصديق العزيز الدكتور الصيد أبوديب على حديثه العلمي الشيق والمثمر الذي استفدتُ منه كثيراً وخلصتُ إلى هذا الرسم البياني من واقع البيانات الببيولوغرافية التي قدمها اليوم خلال حديثه عن الرواية الليبية).

وأخيراً، كثيرةٌ هي المواقف والأحداث التي جمعتني بالأديب والصديق الراحل الدكتور الصيد أبوديب، وإن اخترتُ في هذه المقالة السردية الحصرية ما علق بالذاكرة من وقفات، واستحضره القلم من شذرات، فقد بقي الكثير الكثير غيره يسكن القلب في صمت وكتمان كان محل استذكار بيني وبين فقيدنا من حين لآخر، حتى بث الناعي يوم 10 مايو الماضي خبراً حزيناً هزّ كياني وأفزعني، بتأكيده أنّ الموقدَ قد انطفأ، والنجمَ الذي كنتُ أهتدي بأنوار توجيهاته قد أفل، ورحل عنا الأستاذ العزيز الدكتور الصيد محمد أبوديب عندما اختار المولى سبحانه وتعالى له مسكناً آخر، وأبدله أهلاً وصحباً ونعيماً دائماً مقيماً، ونهراً فردوسياً لا ينضب. ولكن كما يقولون إنه حين يغادر أديبٌ أو كاتبٌ أو أستاذٌ فإن نقوشات حروفه تظل باقية تتنفس فينا، وكلماته حاضرة على ألسنتنا، تستوطنها قلوبنا وعقولنا، وطالما أن فقيدنا الراحل الدكتور الصيد أبوديب قد ترك لدينا وفينا علماً وفيراً وعطاءً غزيراً، وسيرةً عطرة، وأثراً وكُتباً عديدةً بين أرفف مكتباتنا، فستظل تبعث حضوره فينا، لتنهل منها أفكارنا، لأن روحه وقناديل إشعاعه ستبقى وإن فارقنا ورحل الجسد.

في ذلك اليوم بكيته، وعلى صفحتي في الفيس بوك نعيته، وهو أقل واجب أشاطر به أسرته وأهله وأحبته حزناً على فراقه، والثناء على صنيعه ودعمه وتشجيعه، والذي أحسبه في ميزان حسناته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاَّ من أتى الله بقلب سليم، ورحم الله الصديق الأستاذ الدكتور الصيد محمد أبوديب.

طرابلس في 28 يونيو 2021م


(*)  ألقيت في حفل تأبين الدكتور الراحل الصيد أبوديب، يوم الخميس الموافق 1 يوليو 2021م بمعهد الموسيقى والفنون التطبيقية بزاوية الدهماني، طرابلس، ونشرت بمجلة (الفصول الأربعة) العدد رقم 131 الخريف أكتوبر 2021م.

مقالات ذات علاقة

الشيخ الزاوي والدكتور الطناحي

المشرف العام

السيدة فتحية عاشور

سالم العوكلي

عبدالحميد البكوش.. ومشروع شخصية الوطن (1)

سالم الكبتي

اترك تعليق