فريدة عدنان | المغرب
جلست في هدوء وهي تسند ظهرها الى جذع شجرة الزيتون، قرب المنزل الريفي العتيق، المتواجد فوق ربوة صغيرة، تنظر إلى روضة مقابلة لها، حيث يرقد زوجها الذي تركها وحيدة رفقة أبنائها السبعة، وهي في ريعان شبابها.
كل مساء تجلس في نفس المكان وكأنها تحادثه وتخبره عن تفاصيل يومها، هكذا هي منذ عشرين سنة خلت،
لقد أخذت منها السنين ما أخذت، لكن جمالها وهي فتاة يافعة مازال يرى في تقاسيم وجهها الذي خط عليه الزمن حكايات لا تروى.
رفعت أكفها وبدأت تتضرع في خشوع وعيناها شاخصتان للسماء.
اليوم ليس كباقي الأيام، هو يوم يحسم فيه مصير ابنها الأصغر الذي لم تره منذ شهور، والذي تعبت من أجل أن يكمل تعليمه العالي ويحصل على أعلى الشهادات، عكس باقي إخوته اللذين آثروا المضي قدما في مناحي أخرى من الحياة، وسلكوا طرقا عدة بعيدا عن عالم الدراسة والتحصيل العلمي. أما هو فقد كان طموحا يعشق الدراسة، ويسعى إلى بلوغ أعلى المراتب، ليرفع اسمه واسم والدته عاليا.
كان دائم الفخر أنه ابن ذلك الرجل البسيط، الذي توفي دون أن يرى أبناءه من خيرة شباب القبيلة. وفخره كان يزداد كلما سمع أحدا ينعته بابن الرجل الطيب وأنه نسخة من والده في ملامحه وأخلاقه..
تذكرت كلام زوجها لها عندما كان يحتضر، وترقرقت دمعة من عينيها العسليتين التي كست جوانبهما خطوط غائرة “أريدك قوية راضية بالقدر حملك ثقيل، لكن أبناءنا أمانة يجب أن تصان تسلحي بالصبر حبيبتي”. تمتمت “إنها أمانة أثقلت كاهلي وصنتها رغم قساوة الحياة حتى انكسر ظهري”، ثم همت بالدخول إلى المنزل.
بعد مدة ليست بالطويلة من ولوجها البيت، سمعت أصواتا آتية من الخارج تنادي عليها وتدعوها لفتح الباب. خفق قلبها المتعب بشدة أمسكت بالجدران لتصل إلى الخارج، فآلام الركب يعاودها من حين لآخر. لم تدر ما الخطب لكنها بمجرد ما إن فتحت الباب حتى انهالت عليها التهاني والتبريكات من كل الجيران.
ورأت ابنها الوسيم في عناق حار مع أخوته.
أطلقت زغرودة ممزوجة بدموع خبأتها بعيدا عن العيون منذ سنين.
اتجه نحوها وعيناه يملؤهما الفخر. جثم على ركبتيه وأمسك بيديها المرتعشتين فقبلهما في قدسية، وهو يقول “لولاك يا ملاكي ماكنت لأصل لما أنا عليه الآن، أنت من كابدت مشاق الحياة وحدك وحرصت على أن نكون أنا وإخوتي مثل أقراننا رغم صعوبة الحياة، فأنت التي تستحقين أعلى الشهادات”.
عانقته كما لو كان طفلا صغيرا، وتحولت دموعها لابتسامات وضحكات وترحاب بالزوار.
ماهي إلا لحظات حتى اختفى من فناء الدار، وغادر متوجها نحو قبر أبيه بخطى سريعة، لاحظت أمه خروجه المفاجئ، استأذنت من الحضور ومشت خلفه دون أن يلحظها، فظلت تنتظره تحت شجرة الزيتون، رأته عائدا مطأطئا رأسه، وعيناه ملتهبتان، كانت الشمس في طريقها للمغيب. نادته بحزم ارفع رأسك عاليا، إن أباك فخور بك الآن، لقد ولى عهد الانكسار، أنت الآن نجم ساطع في السماء والعيون كلها ترنو إليك، أنت الأمل والحلم الجميل الذي تحقق، وأنا فخورة بك وبكل إخوتك.
طبع قبلة طويلة على رأسها الملفوف بوشاح أبيض، وهو يقول “كم اشتقت إلى حضنك الدافئ جنتي”.