لذكرى جدتي مريم رحمها الله
في أول السبعينات وببيتها العربي العتيق بالهضبة، كان لجدتي لأمي وفي اعلى سطح البيت مقصورة (غرفة للخزين).. تقفل عليها بثلاث اقفال نحاسية وكانت تصعد إليها للضرورة فقط وعبر سلم حديدي كلما احتاجت أن تجلب شيء منها.
كانت اغلب الاحيان تصعد وحيدة لا أحد برفقتها تدخل تلك الغرفة وتقفل عليها بابها من الداخل وتعتزل بها نصف ساعة ساعة ساعتين المهم حسب ترتيب توقيتها التي ألزمت نفسها به وبما لا يتعارض مع استكمال حاجاتها الخدمية المتتابعة والتي تستمر لأربع وعشرين ساعة لخدمة ذاك البيت وضيوفه.
لكن وحدث هذا أكثر من مرة وحين اكون موجودا بزيارتها ولوحدي أن تشملني بعطفها وتتكرم على برفقتها لغرفة اسرارها تلك، هامسة بأذني وهي تقرصني من طرفها العلوي اسمع يا ولد لا تخبر أحد بذلك فهذا سر فأحتفظ به لنفسك.
كانت تأخذ بيدي عبر ذاك السلم الحديدي وتدخلني معها لتلك المقصورة وتقفل وكما عادتها دائما خلفها الباب.
كنت بغاية السعادة حينها فقد كانت وكأنها تأخذ بيدي لمتحف عتيق أو غرفة للألعاب القديمة كانت تجعلني رفيقها بغرفة الدهشة تلك وكان هذا وبعمري ذاك غاية المنتهى عندي وقمة سعادتي.
اول ما تدخل تلك المقصورة تجد على جدارها الايمن تستند سدوتها ولجوارها مجموع عبايات الصوف والتي صنعتها بنفسها، قراديش معلقة صوف ملفوف وجاهز للعمل عليه، بابور غاز، قدور، خوابي فخار، إله قديمة لطحن القمح والشعير (رحى) منجل قديم وغيره من المقتنيات التي لها عبق التاريخ وعطر مسلاتة.
مقصورة جدتي ليست مجرد دار خزين لأرث قريتها فقط لكنها كانت تجمع بها التموين والذي كان متوفرا بكل انواعه في تلك الفترة من السبعينات فالتجارة لم تصنف كجريمة بعد فتجد بالمقصورة التايد صابون برسيل زيت قرطاج طماطم المنصورة مكرونة قرجي. وغيرها من المواد بل حتى كل انواع الحلويات القديمة والعصائر والمشروبات علب (شكلاتة الكروسة وشكلاطة ككوكبرنج والشمعدان الطروني) و(اليوقا ومشروب السينالكو وزمزم وفريز بومبا) وغيرها من المشروبات.
بل الامر يتعدى ذلك ففي الغرفة كل قديم سمعت عنه ولم أشاهده سابقا الا عندها اقصد السلع بشكلها القديم اخر الخمسينات وفترة الستينات طماطم معجون حكة عشرة كيلو، زيت زيتون ببرميل حديد كبير يعلوه الة للشفط، قهوة نسكافية بعلب كبيرة مربعة، كاكاو بحكة معدنية قهوية كبيرة، شامية بكذا نوع ومن كذا زمن وكذا بلد.
اشياء قديمة لربما يعود بعضها لزمن الاحتلال الانجليزي لم يكن امر انتهاء الصلاحية معنيا بمقتنيات جدتي فلم نصب يوما بتسمم او غيره لربما بركة جدتي ونواياها الحسنة كانت ختم صلاحية كل تلك المقتنيات.
_ الامر يتعدى ذلك بمعرض الدهشة ذاك فتجد حتى الالعاب القديمة (كوشنيتي) خالي محمد (بطش زرابيط) ودراجة قديمة (بيانكي) لجدي ميلاد رحمهم الله جميعا..
كنت غريق دهشتي ادور خلفها بفاه فاغر ومفتوح على اتساعه كلما رافقتها رحلتها تلك وكان يزيد دهشتي عظمتها في ترتيب كل تلك المواد والتي جعلت لها نظام ورتابة قل نظيرها حتى بمكتبة حديثة.
بيت جدتي بيت كرم اذكر في السبعينات كان كل قادم من مسلاتة لابد ان يمر عليها للإقامة والمبيت الامر قد يستمر اياما الى ان ينهي الضيوف كل اشغالهم بطرابلس.. كانت خالتهم جميعا وكان لا ينقص عليهم من كرمها وحسن ضيافتهم أي شيء.
كانت جدتي تأخد ما تحتاجه لإطعام ضيوفها من مقصورتها وتضعه بكيس من ورق فلا يوجد نايلون حينها.. ثم تجلب كرسي خشبي صغير وتجلس بوسطها كما ذكرت سابقا ولوقت قد يجتاز الساعة اقل او أكثر ولا تغادر..
كانت تملك وقت لنفسها دائما ولا يؤخرها شيء عن اشغال بيتها تجلس في صمت، كنت حينها استغل الفرصة للعب بتلك المواد التي تثير دهشتي بغرابتها عني برتابتها بل بكل الكتابة الانجليزية او الايطالية والتي لم أكن اعلم كنهها حينها والتي دونت على كل تلك المخزونات فقليل منها فقط كان مكتوب عليها بالعربية..
كانت فعلا بوحدتها لكني لم أكن اغيب عن عينها ولو للحظة كي لا أفسد عليها نظام مقصورتها تلك والتي احتاجت لترتيبها لعقود..
بخلوتها تلك كانت وفي مرات قليلة تستدعيني للحديث.. مرة نادتني وشاهدت دمعها المكابر يسيل من عينيها فقالت اسمع وراس ولدي ريت طرابلس بكبرها.. وريت قداش ليا فيها.. وريتني بالأتوبيس والفراشية ومش مقصرة في زيارة اقاربي وامر عليهم بكل مناسبة وشفتهم بعينك هنا ايضا وبهذا البيت يحيطون بي ولا يفارقونني.. ريت قلقي ع جدك ميلاد ومرضه رغم ان مستشفى (كانيفة) قريب.. ريت أمك وخالتك واخوالك وفرحي بهم وبأولادهم
_اجبتها نعم يا حناي نعم
قالت اسمع وراس ولدي كل هذا وأكثر منه لا يعنيني وليس هو الفرح عندي وليس ماكنت اتمنى لنفسي.
انا ليس لي في كل مدينتكم وحياة ولدي الا هذه المقصورة، هنا اذهب بعيدا لهناك لطفولتي وكل بيت (ال حديد) اسرتي وهم من حولي في بيوت الطين تلك أو عند زيارتنا في جمع العائلة لمرقد سيدي الدوكالي أو عند ذهابنا معا للبر بمسلاتة في موسم الحصاد بعد المطر أو وانا صغيرة اجمع الزيتون رفقة اخواتي او اجري لوحدي اما سعيدة خلف طائر حجل لا اناله ابدا اما خائفة وكأن الذئب يجري من خلفي.
انا من هناك وحياة ولدي انا من هناك لربما خسرت كل هذا لكنني جاهدة ولعقود وكي لا اخسر ذاكرتي صنعت هذه المقصورة.. معبد صغير الوذ به كي لا اتوه بمدينتكم الكبيرة هذه وأفقد القدرة على جمع شتات نفسي..
رحمها الله وانا اذكرها الان فهي لم تعش معنا من واقعنا الا واجباته التي أحنت ظهرها ولم تتخلف عنها يوما فهي لم تكن لتنام في اليوم الا أربع ساعات … لكنها بالمقابل وبفضل مقصورتها تلك عاشت طويلا كحلم تجاوز عمرها وهي تصر على ألا تغادره المئة عام.