النقد

عن التجديد في شعر أُمَيْلَة النيهوم، أقول: حنين البهجة شعر.. أنين اللهفة لمعانُهُ..

أحبك مشياً على أطراف الأصابع للشاعرة أميلة النيهوم

كأنني قرأتُ ذات مرة، أنّ أُميلة في احدى لقاءاتها، تقول، ما سأقوله هنا بلا نسخ : إن بداياتها تمتد إلى صباها المبكر، حين كانت تخطُّ بيتًا من رسمها، أو بيتًا من شِعرها، وتعرضه على والدها الذي كلما استحسن بيوتها وأبياتها الصغيرة، كلما أهداها كتابًا حسب عمرها، وحين بدأ يكتشف أن عمرها العقلي بدأ يكبر أكثر من عمرها الزمني، صار يُهديها كتبًا تتماشى و ذائقتها العقلية وليس سِنَّها، والحقيقة أن النيهوم عكستْ بهجتها ولذّة القراءة عندها في كل ما كتبت، فقط إن ذكاءها كان طاغيًا، لأنّها نسيَتْ ما قرأت وبدأت تكتب ذاتها وتترجم كيانها هي وحضورها الطاغي على أبياتها المطرّزة:  مرة بأبّهة الحنين، وأخرى بأبّهة الشجن، وثالثة بأنثروبولوجيا ليبية التأصيل، نيهوميّة العمق، تستحضر من خلالها عبير الحروف عند عمها صادق النيهوم، أحد أشهر مفكري ليبيا ومُجدّديها في القرن العشرين، في الأدب وفي الفلسفة معًا، وكذا مما قرأتْ من أسفار شتى لأدباء كثر وعلماء في شتى الحقول.

ليس بوسعي أن أُحصي عدد النصوص التي حاكتها أُميلة النيهوم، خصوصًا في هذه الأشهر الأربعة الأولى من هذا العام الجديد 2021، الذي ولد من رحم مأساة عالمية تمثلت في وباء جحيميّ لا تراه العين، معلنًا مع ذلك عن وجوده رغم حقارته، لابسًا تاجه، كملك متجهّم، أعجز العلم، وركَّع الأرض ليُحيل شاراته إلى قدرة أخرى أعظم، تراقبه لأنها خلقته هي كآية، ثم ستأذن له، أن يغادر في سلام.

أقول إنني انتبهت من كل ما سمعت في نسيج أُميلة الشعري، وكل ما رأيت، أو لنقل كل الذي حفّزني أن أكون (مبصرًا) لا رائيًا (لعطر) ما تحيكه هذه الشاعرة من أُبّهة الكلام ـ مرغمًاـ على تحويل حاستَيْ الشم والنظر عندي، إلى حاسة سمع، لأنني أمام سيمفونية تساندت على عزفها كائنات شعرية برزخية لا مرئية أيضًا، اجتمعت كلها لتحتفي بمؤلف أُميلة، وتعزفه لها ولهانَة بها، هو ذاته الذي فرض عليَّ أن أتقابل معه كقصائد مموسقة من هذه الجوقة المصنوعة بحِرفيّة.

الشاعرة النيهوم إذًا، لا تكتب كلمات، لكنها تحيك نوتة موسيقية تخصها وحدها، تستعين عليها بلسان عربي تَجَمَّلَ بخبرة عميقة، تشاكسه الشاعرة، على أن يتحول من لسان، إلى “لغة” أيقونيّة متفوقة على لغة الكلمات، وقد فعلت، وفق هذا السياق الشعري، أرى أن أُميلة قد لا تُهضم بسرعة أثناء القراءة، فقط لأنّ قاموسها مكتنز بالثقل والدسامة، رغم خفّة ورقّة كلماتها المشحونة بالألوان.

لن أبالغ، أتقصّى قراءة فقط، دون تحيّز، سيدوخ القارئ لأول وهلة، حتى إذا كان اختياره عشوائيًّا من قصائد هذا الديوان الذي تدفع به أُميلة، ولأول مرة، ليكون في كتاب، حالة أشبه بدوار لائحة من مختارات شعريّة، يكون الأجمل فيها غيره أجمل منه؛ لذا فإنني لن أختار منهجًا وصفيًّا ولا انتقائيًّا لكتابتي بصددها، ولن أخفيكم أنّ تجربتي بصدد قراءة الشاعرة،  تكمن صعوبتها في تعقد اللون (جماليًّا) بين قصيدة وأخرى، حتى لا أراني قادرًا على التمييز، أيهما الأحقّ أن أشير إليه في هذه المقدمة، التي تشرفت بكتابتها بطلب منها شخصيًّا، أُميلة لا تكتب من أعلى إلى أسفل، أي لا تضع تقديمًا مُحدَّدًا لأبياتِها النثرية، هي تتأمل هكذا بلا طلب من أن تقول كلمات، ترى إلى الشكل الماثل أمام مُخيلتها، ثم تُزيّنه بطريقتها، وتُحيله من مجرد كلمة لبست حُلّتها الجمالية، إلى أيقونة ذات بهرجة قرمزية، تبدأ بها كلماتها، أو لعلها تُؤثثه بالحنين دون ريب، كما تقول هنا في نصها “تثاؤب غبار البهجة”:

” أسمع اسمي

  يتخشخش

  بحروف مُثقلة

  وجعًا

  مملوءًا شغفًا

  يُغرِقُ

  بهجات

  أُوار النبض..”

سيلاحظ القارئ أن الشاعرة من الناحية الشكلية، تترك كلماتها تتناثر الواحدة تلو الأخرى، ليس إلى أسفل، بل إلى أن تكون منثورة كحبوب مُنضبة بُغية زراعتها، في بيئة حارّة عطشى شغوف لأن تُغرق قلبها في شيء من الانتعاش بماء ترشُّه من نبضها كذلك، لتُحيي بعدها كلماتها التي زرعتها بطريقتها، كلمات تتعرّش فيما بعد مع بقية النص، فتتناثر نجماته الحُبلى بزهور الوريد الذي يسقيها بعناية أيضًا، لذا سنراها تقول هنا:

” فينسكِب عبور

  غبار شاحب

  تتناثر نجمات

  حُبلى

  بزهور وريدك.. “

بالضبط لعبة أُميلة العلاماتية ومكمن صنعتها الشعرية، في هذا الرقش، الذي يتكرر في كل مرة بلون في أغلب نصوصها الشعرية، أُميلة لا تختار أن تكون مُجدِّدَة مع سبق الإصرار، بل كلماتها هي التي تنحت ذاتها لتُجدِّد شاعريّتها وتعلن عنها بأسلوب جديد ومغاير، ليس من أجل المخالفة، بل من أجل الصنعة الشعرية بإبداع جديد، لاحظوا هذا الأمر في بقية النص:

” يَتفقّدُك

  يَفتقِدُك

  فَقْدًا مُوجعًا لِلقلب

  تَفقّدَ شغفٍ لِلصبّ

  افتقادَ لَهَفٍ لِمُحبّ

  تُحاذيه

  سواقي حبق

  تَحويه ضفافك

  وتزيدك

  تنقشُني فجرًا

  يتثاءب… “

المتوالية الرياضية هنا، لم تأت بغرض اللعب بالكلام، أبدًا لا، لكنّها جاءت لِتتعاضد في ضفيرة تلمع بعد كل كلمة مغايرة لِشبيهاتها بشكل مختلف، في كلمات من مثل: (يتفقَّدك.. يفتقِدك.. فقداً.. تَفقّدَ.. افتقادَ) هذه المفردات واحدة في الجناس، وبعضها واحد في المعنى، لكنها مختلفة في المغزى، وفي لون البريق وشدة اللمعان، حين تتعاضد مع مفردات أخرى مشتعلة منثورة بعناية، من مثل: (شغف .. للصب، موجعا.. لهف.. محب).. ثم تأتي بمفردات مائية لِتلطيفها من قيظها، بل لتُسيّجها أيضًا وتُحيل نارها إلى عُملة مسكوكة “بتِبْرها” أو لِنَقُل بألماسها الخاص، لذا سنُلاحظ:

(تحاذيه.. سواقي.. حبق.. تحويه.. ضفافك).. ثم: تزيدك.. تنقشني.. فجرًا يتثاءب..) إلى أن تُنهي قصيدتها بشكل مفتوح على الأبّهة النصيّة، بعملية خلق ثيولوجية غارقة في البهاء المعرفي، ومُوغلة في التصوّف: (من ضلعك.. يتنفس.. غرقًا.. ببهاء.. قصيدك..).

نثر أُميلة يؤول إليها وحدها، تهبه للعالم لكنه يعود إليها، إنها تَصِرُّ إليها الكلمات، وتُطلقها في الهواء فتحتال طيورًا ملونة، تعبُر الفضاء ثم تعود لتستقر على كفيها؛ حتى أننا نراها تختم بالمكان، وكأنها تقول كنتُ في روما، بتاريخ 02 – 04 -2021،

وقد تكون لم تكن كذلك، بقدر ما أن كلماتها هي التي حطّت على مَدارج الكولُوسيو، ثم عادت إليها، يستطيع الشاعر أن يطير لأماكن شتّى في الشعر عبر المخيلة ـ ( الشاعر المسكون) ـ حين تتربَّى هذه الأخيرة على أن تكون محض أخيولَة جامحة، رغم أن الشاعر قد يكون لم يتحول من مكان الكتابة التي قد لا تكون في روما تحديدا بل في ميونخ مثلًا أو أي مكان آخر، لسبب بسيط، أن روح الشاعر تكتب عن نفسها القابعة في المكان، فيما هي تتجوّل في أماكن أخرى، أُميلة النيهوم تنجَح ببراعة في هذا الأمر بالتحديد، إنها تقود لعبة نصيَّة، ليس بوسع أحد فعلها، عدا أولئك المسكونين بقلق الجمال، فالمكان الذي تُوّقع منه الشاعرة قصيدتها، هو في حالة أُميلة هذه جزء لا يتجزأ من الأبيات.

تعالوا هنا نترحّل في هذا النص، والذي تمنحه أُميلة عنوانًا دقيقًا: (رِضاب الصبّار الشارد):

” شاهق

  شائق

  شائك

  بَوْح مُوجِع

  تعدو به أفراسُ

  دمعك الحرون

  صهيلُ سراب

  مَهيض السُّرُج

  يتلقّفهُ

  رِضابُ صبّار شارد

  يتبعثر بِفَيء ٍجَمُوح

  أنينٌ قلِقٌ ظامئٌ

  غموضهُ يزأر

  بِلُغةِ الصمت

  الماطر “

ودائماً ثمة جناس تَصْحيفي لِكلمات مُتشابهة في الترنيم مختلفة في المعنى، بين السموّ والدهشة والصلابة رغم حريريّة المفردات، بِالكلمات الثلاث التي فتحت بها الشاعرة نَصها في البداية، لِتفرد خصوصيّة الوجع في البوح به عند أقصى مراتب الألم، وكأنها تقاتل مرارة ما، لِتغصبها على أن تكون شهْدًا عند صهيل السراب الذي تَسرُجه بلهيب وميض، يتناثر تبْرًا، في صهيل السراب المكسور الجناح بعد الجبر، ليكون في قبضة صبار شارد، ثم يؤول كل شيء بعد هذا المشهد المهيب إلى حالة، ليست سكونيّة، بل متوهجة مع جلال السكوت المقتصد، الذي لا حدود لِجَماله..

هنا وجب أن أنوّه إلى أن حالة التجديد عند أُميلة، كامنة  في رهافة سمعها لما تُمليه عليها مُخيّلتها التي سبقت حسّها الشعري، فالحِسّ الشعريّ عند الشاعرة لاحِق للمُخيّلة وليس سابقًا لها، لسبب بسيط أن مخيلتها جُموحٌ فارط، لذا هي تريد كل شيء في مملكتها، يؤول إلى سلطة بهجتها المناضلة ضد كل ما هو قبيح، لتنتصر في النهاية إلى الشعر، سنُلاحظ أن كل هذا خرج عن سلطة مغزاه المخفي، إلى أن يكون بيّنًا بكلّ تجلياته في نصها الموسوم بـ (دروب أُميلة) والذي وإن جاء في تفعيلة عبقريّة مُقفّاة، فهو لا يختلف في مغازيه عن بقيّة أعمالها:

” ذابت الومضة الأسيلة

  تلْتمِس وصل الخليلة

  مالت الأكمام وَجدًا

  مثل غصن في خميلة…”

هي لا تتوقف عند هذا الحد، بل تُجالد حتى النهاية دون أن تشبع مما تفتّق في أخيلتِها من نسيج مملكتها، إنها لا تستعين بالكلمات، بل بأيقوناتها التي تُعينها لتقولها، بدل أن تستعين هي بها:

” واستفاق اللحظ يرنو

  وأُواااار الحضن يحنو

  وانسياب الآااااه يدنو

  علّهُ يشفي غليله! “

ما يُعين هذه الشاعرة، هو الطاقة الهيولية لمخزون لغتها من جهة، والمصب الذي تختاره لها الكلمات وكأنها في حقل جوري لا ضفاف له، لأنها تعرف مدى صدق تعبيرها من جهة أخرى، أقول هذا لأنني تمعّنت العمق في شيفرة ما تريد البوح به، شيفرات أُميلة في كلماتِها المُسنَّنة التي تُخذرها هي بطاقة نضالها ضد القبح، هل يا ترى هذا هو كل شيء؟

لا أظنه كذلك، لأنها تتزحلق على بتلات ورودها في نهاية هذا النص الليلي الفخم، الذي جاء أخفّ من جناح نحلة، مُمتزجًا مع حكاية مُضافة لأسطورة أُميْليَّة فائضة الحس مُضافة إلى ألف ليلة، لكنها حالة من صوفيّة جديدة تمامًا، حالة ما بعد الوَجد، تُنير طريق كل من تشقَّقت قدماه في سبيل الوصول إلى مملكتها، تعالوا نكمل:

” وارتشاف النور يعلو

  ضمّة الوَلهِ الكليلة

  قد غفتْ في مقلتيك

  ودنتْ من ألف ليلة

  كُلّما فاض العقيق

  وانتشيتَ بالرحيق

  برضاب كالحريق

  يُنعش الروح العليلة

  قلتَ يا ويح طريق

  لا يؤدّي لأُمَيْلَة! “

هذه هي ببساطة مملكة الشاعرة التي نوّهتُ إليها آنفًا، عالم خاصّ في مملكة بديلة شعريّة وعظيمة، قصورها قصائد، ومدارِجها حكايات لم تبُح بها الأسطورة بعد.. لكنني سأبوح هنا وبكل وضوح، أنّني لن أضيف أكثر على ما قالت، حتى يبقى للنص تأويله عند قارئ مُعاضد آخر، وحتى لا يفقد أحدنا بوصلته ويتكئ على بوصلة الآخر “نحن القُرّاء” فإنني أتوجه للقارئ الكريم بأن يصغي السمع برهافة أثناء القراءة، فقط لأنني لا أرى أيّة دواع لأكتب مقاربات وأستدل بشاعر سابق عليها أو لاحق، أو شاعرة أخرى، مهما كانت مستويات البريق لكل واحد منهم أو منهن على حدة، أو أن أسحب تاريخ شعر ليبي محلي، أو عربي، أو حتى عالمي، لأقارن به، أو أملأ به فراغاتي، لأن أُميلة نفسها، من ناحية أخرى، تستدرج متاهات مُنهكة في الكتابة، ترسمها بشغف نزفها، ليس غايتها كما أشرنا أن تتميّز، بل إن قصائدها هي تذكرتها لذلك، لتُعيد للنص الشعري الليبي، في نهاية المآل ما يستحقه من وَلَه، تغلق به على القارئ بهجتها المحضة، ليعيش معها مرانًا آلتهُ على نفسها، لتُعين قارئها على تربية حاسته التي اعتلاها غبار الفقْد، فقْد كلّ ما هو جديد ومثير، في زمن تتهافت فيه وتتصارع آونة القبح بلا عدد، زمن غصَّ بركام الفرد الواحد، زمن فقَد اجتماعه، في وطن يبتعد عليه من يسكن فيه بلا هوادة  عالم آخر تصنعه الشاعرة، لتفرَّ إليه من قيظ الوطن النازف، ليبيا الممزقة بين أروقة الحرب، ليبيا التي هي الآن ترتاح وتبتهل، أن تسكن في سلام من أراد أن يسكنها، لذا ها نحن ننتظر الأسمى بعد كل هذه الفوضى.

هنا تحديدًا، سأشير إلى مآلات بهيّة في كلمات، قطفتُها من نصها (خسوف نبيذ الشغف) والذي سيكون مُختتمًا لما أردت التنويه إليه، كونه هو الآخر خاتمة لخسوف قصير، تنوِّه له الشاعرة في نهاية نصها، والذي بلا ريب ستلاحظون في ديوانها هذا، بأنّه ستتلوهُ نصوص أخرى جميلة ومفعمة بوَلَه الجلال بلا انقطاع، ومُنبئة عن شاعرة كاملة الملامح، ووطن معافى:

” لأجل هذا الهطول

  السخيّ

  أحببتُ طقوس

  التنوير المُبهِج

  لأغصان

  الدهشة

  تتمايلُ

  في حُلمٍ

  واعد    “


* أستاذ النقد والتحليل في الجامعات الليبية

طرابلس في/23ـ 04ـ 2021

مقالات ذات علاقة

أسئلة النص للقاص إبراهيم الككلي

المشرف العام

قصائد الفاكهة

محمد الأصفر

الروائي مؤرخاً.. رواية (يا فاطمة الجبل) للدكتور محمد سعيد القشاط (أنموذجا)

المشرف العام

اترك تعليق