منذ أن تبلور الخيال البشري، واقتحم مجال صناعة الأساطير والخرافات، عرفت الإنسانية الرحلة إلى العالم الآخر، السفلي أو العلوي، عالم الموتى والكائنات العجيبة، حيث كانت تذهب إليه، قسرا واضطرار، الآلهة وكذلك البشر. موضوعة الرحيل إلى العالم الآخر هذه انتقلت، بصيغ مختلفة، إلى الأدب.
في قصة “لعنة الرواية“، للقصاصة والروائية نادرة عويتي، نجد حالة من حالات هذه الرحلة.
مريضة تحت التخدير تسمع الطبيب يعلن أن فرصة الحياة قد انسحبت من أمامها وأنه ينبغي تركها ترحل.
بعدها تبدأ الرحلة إلى العالم الآخر، بداية من القبر. يتعامل معها ملكا الموت بلطف ومودة، ثم يطيران بها ويدخلانها الجنة.
في الأساطير، والخرافات القديمة عادة تتسم هذه الرحلات بالمعاناة والآلام ومشاهد الرعب والكائنات المرعبة، لأنها غالبا تحدث عقابا من الآلهة لإله أو بشر ارتكب خطأ لا تتسامح فيه الآلهة.
لكننا هنا لا نجد شيئا من هذا القبيل، ولا نجد حتى وصفا لنعم الجنة، سوى “رائحة الجنة [التي] تنفذ إلى شغاف القلب وتحيط بمكامن الروح .[… و] الأشجار والأنهار الذائبة في ألوانها* والطيور المرفرفة اللاهية بعذب تغريدها”. لكن المرأة، وهي على سريرها في الجنة، تظل مرتبطة بأحد الطقوس التي دأبت على اتباعها في الدنيا، وهي القراءة قبل النوم. وتتذكر الرواية التي كانت قد شرعت في قراءتها قبل موتها. كانت رغبتها في توفر هذه الرواية إلى جانبها في الجنة جياشة، إلى حد جعل أحد الملائكة يرأف بها ويعيدها إلى سريرها بالمستشفى. في هذا الجزء من القصة نجد برزخا واصلا بين الحياة والموت، وبين الجنة والأرض. وهذا البرزخ وجد ليعبره الإنسان، إلا أنه، في العمق، هو الإنسان ذاته. فالرواية التي تلاحق الميتة في الجنة هي رواية تسرد بطلتها حياتها منذ الطفولة إلى ما هي عليه الآن حيث خيبة الأمل. وتشعر الميتة المعادة إلى سريرها بالمستشفى أنها، بعودتها من الجنة، تحمل سفر أخطائها كما لو أنها تعيد قصة خروج حواء من الجنة. وهنا تربط عودتها من جديد إلى الجنة بتخلصها مما تسميه “لعنة القراءة”.
التفسير الرمزي لقصة خروج آدم وحواء من الجنة هو أنهما، بعد أكلهما من الشجرة المحرمة، اكتسبا معرفة لا سابق لهما بها، هي، على الأقل، معرفتهما بأعضاء من جسديهما كانت خفية عنهما، لأن الشجرة التي أكلا منها هي شجرة المعرفة، وتفسيرها على أنها شجرة الغواية لا يتعارض مع هذا التفسير، لأن الغواية، في نهاية الأمر، معرفة بأسرار الغواية وطرق الإغواء. لذا ترتبط عودة الميتة إلى الجنة بتخليها عن “لعنة القراءة”، أي: لعنة المعرفة. لارتباط القراءة بالمعرفة. المعرفة التي أخرجت آدم وحواء من الجنة وجعلتهما يواجهان مصيرا جديدا ومسؤوليات جديدة. فالمعرفة مسؤولية أيضا. مسؤولية العارف عما يعرف. والمعرفة نهمة وشرهة، لا يشبعها ما ينضاف إليها من معرفة، وتظل دائما تطلب المزيد، أو كما يقول الشهرستاني: “من غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط”. إنه لا يبحث عن هذا الشط أصلا.
لكننا نفاجأ بأن الكاتبة تستخدم ما يعرف في المسرح البرختي بـ “التغريب”. أي الحرص على تذكير المشاهد بأنه يتفرج على ممثلين يؤدون أدوارا تمثيلية وليس على وقائع حقيقية يمر بها ويعايشها الأشخاص الذين يشاهدهم، مثلما كان المسرح الأرسطي يفترض وفق مقولة “التطهير” التي ترى أن المشاهد بتوهمه أنه يشاهد أحداثا فعلية وأبطالا حقيقيين من خلال اندماج الممثلين في أدوارهم وتقمصهم للشخصيات التي يمثلونها، يتخلص من عواطفه المكبوتة ومشاعره الضاغطة.
الكاتبة تستخدم هذا التغريب بمفاجأتنا أن ما مر بنا هو هذيان المريضة تحت تأثير التخدير. وأنها تجد الرواية التي تطاردها لعنتها إلى جانبها. فينقشع الموت وتبقى الرواية ولعنتها: تبقى الحياة، وتبقى المعرفة النهمة وما يترتب عليها من مسؤولية.
* في رأينا، الجملة مضطربة. إذ ما معنى أن تكون الأنهار “ذائبة في ألوانها”؟!.