لعلها المصادفة التي لعبت دورها في كتابتي عن فن الجداريات فكل ما سبقه من القراءات النقدية كانت إما عن معارض تشكيلية أو لوحات من الفن التشكيلي ونشرت في ثلاثة كتب من كتبي، ورغم اهتمامي النفسي بمشاهدة الجداريات أينما رأيتها حيث كنت أتوقف طويلا في تأملها إلا أني لم أكتب عنها، والمصادفة كانت أن الفنانة التشكيلية وأستاذة الفن في مدينة إربد عروس شمال الأردن الأستاذة رؤى أبو صيني كانت تريد ملاحظات نقدية من نقاد في الفن التشكيلي عن عدة جداريات لترفقها برسالة الماجستير التي كانت تعمل عليها حول تأثير الكورونا على الفن التشكيلي، فنصحها الفنان التشكيلي رائد يوسف قطناني بالتواصل معي رغم بعد المسافة حيث كنت في الوطن المحتل والطرق مغلقة بسبب جائحة الكورونا، فلم أستطع لعام كامل من العودة لبيتي في عمَّان عاصمة الأردن الجميل مستمتعا بنفس الوقت بجمال الريف الفلسطيني في بيتي في قريتي الصغيرة جيوس الخضراء.
قبل الحديث عن اللوحات يجدر بنا التحدث باختصار عن فن الجداريات، فهذا الفن استمد اسمه من كلمة “جدار” لأن اللوحات إما ان ترسم على جدران البيوت والأبنية أو على أسوارها، وحين البحث في التاريخ نجد أن أقدم وسيلة للتعبير من خلال الرسم كانت تعابير الانسان البدائي على جدران الكهوف، وهذه الرسومات منحتنا الفرصة للإطلالة على نمط الحياة والتفكير عند الأقوام البدائية، فهي وسيلة تعبير بصرية في وقت لم يكن الإنسان يمارس الكتابة، وهذا النمط من الفنون رافق الإنسان ولم يزل يرافقه بأشكال مختلفة، فحين تطور الإنسان رافقته الجداريات كوسيلة للتعبير كما نشاهد بجداريات المعابد الفرعونية أو الجداريات السومرية التي ما زالت أسرارها غامضة وكذلك البابلية والآشورية، اضافة للشعوب بمختلف أرجاء المعمورة التي عرفت الجداريات كوسيلة من وسائل التعبير.
ونلاحظ أن الجدرايات عبر التاريخ كان لها أهداف مختلفة، فعند الفراعنة استخدمت في المعابد والمقابر، وبعد مرحلة المسيحية كديانة أصبحت الجدرايات جزء لا يتجزء من جدران الكنائس، وعند المسلمين كانت لوحات فسيفسائية للقصور الفاخرة، وفي العصر الحالي نجد أن الجداريات تستخدم لغايات مختلفة، فمنها فن مقاوم كما الجدرايات التي رسمت على جدار الاغتصاب الاحتلالي في فلسطين في تحدٍ للاحتلال وانتشرت بوسائل الاعلام، ومنها فن تجميلي لجأ اليه الفنانون لتجميل الجدران والأسوار الإسمنتية في بلداتهم، ومنها لوحات تشكيلية لجأ اليها فنانون كبديل عن الرسم التشكيلي على لوحات وعرضها بصالات العرض، حيث أن الجدار يوفر فرصة كبيرة لمشاهدة هذه اللوحات من الناس والانتباه للفنان وابداعه، ومنها جداريات على شكل نُصب تزين ميادين المدن وما زال في الذاكرة نص الحرية في ساحة التحرير في بغداد ونصب ساحة الطيران من الفسيفساء في بغداد أيضا حيث كنت اقف باستمرار لتأملهما بفترة دراستي في بغداد إبان النصف الأول من سبعينات القرن الماضي، ومنها وسائل ارشادية كما ظهرت مع بداية جائحة الكورونا لإرشاد الناس لكيفية التعامل مع هذا الوباء، مع ملاحظة أن المرسوم على الجدران بالألوان لا يستمر لفترة طويلة بسبب العوامل الجوية، حيث تبدأ الألوان تبهت بعد فترة، بينما التي تكون على شكل نصب أو منحوتات جدارية تعيش فترات زمنية طويلة إن وجدت الاهتمام بها وترميمها إن تعرضت لأي خلل مع مرور الزمن والتأثيرات الجوية.
اللوحات أو الجداريات التي سأتحدث عنها والتي اختارتها الفنانة رؤى أبو صيني لمجموعة فنانين من دولة السنغال ونفذت بأكثر من دولة وتقع تحت اطار التوجيه والإرشاد للمواطنين لكيفية التعامل مع وباء الكورونا في ثلاثة منها وهذه السمة العامة لها، وجدارية رابعة لفنان عربي من مصر تدخل في إطار الفن التشكيلي.
الجدارية الأولى: نلاحظ أن الفنان أو الفنانون نفذوا جدارية طويلة على زاوية سور خارجي لمبنى يظهر انه مستخدم للسكن حيث تظهر أشجار حديقته بوضوح، مع ملاحظة أنه جرى استخدام القسم الذي يقع على شارعين مما يتيح الانتباه للجدارية من اتجاهين مختلفين، وحسبما يظهر لنا أن الجدارية استخدمت على مساحة تبلغ سبع مقاطع من الجدار، وكل مقطع متصل بالآخر لإكمال الفكرة، ونلاحظ أنه تم استخدام اللغة اللونية لشد الانتباه، فاللون المتمازج بين الأزرق والأحمر لاعطاء اللون النهدي/ الزهري بتدرجاته المختلفة يشد النظر، وقد تم ممازجة الأشكال المستخدمة مع اللغة الفرنسية المستخدمة في الدولة التي رسمت الجدارية فيها، ونلاحظ أنه في المقطع الأول على بداية يسار المشاهد أن تم استخدام اللون الأخضر الفسفوري، وهذا اللون يشد الانتباه من مسافة وقوع النظر على الجدار، مع استخدام الكتابة بحروف ضخمة ليتمكن من يعرف اللغة من الانتباه للإرشادات.
بين اللوحة الأولى والثانية تم رسم وجه لامرأة جميلة تغطي أنفها وفمها بالقناع الواقي ولكنه جميل وأنيق، “الكِمامة” كما اصطلح على استخدامه لدى الناطقين بالعربية رغم أنه استخدام خاطئ لغويا، وهنا كان الاستخدام لوجه المرأة رمزية مهمة، فمن المعروف أن وجه المرأة الجميلة يشد النظر أكثر من غيره، فنجد الانتقال مباشرة من الوجه ليد تأتي من خلف رأس المرأة الى مدى القسم الثالث من الجدار وهي تستخدم المعقم لليد، فنرى الانتقال من القناع إلى المعقم كإرشاد مدروس للناس والمشاهد من خلال هذه الجدارية، بينما الجدارية الرابعة ركزت على الاستخدام اللغوي بين الجدارية الثانية والثالثة بخط يلفت النظر، ليتواصل مع الجدارية الرابعة والتي حملت رمزية أن الوباء لا يأتي لفئة محددة، فالسيدة شابة ولكن في هذه الجدارية نجد رجل فقير بملابس رثة وحافي القدمين ويضع أمامه وعاء يجمع به ما يضعه المتصدقين من قطع نقدية، ويرتدي القناع رخيص الثمن بإشارة رمزية أنه من المهم إرتداء القناع لكافة الفئات الإجتماعية وبغض النظر عن قيمة القناع المادية فالفائدة تقريبا واحدة، لتنقلنا الجدارية للوسيلة الثالثة في الجدارية الخامسة حيث ضرورة استخدام الصابون باستمرار لتعقيم الأيدي، مع نشرة مفصلة مكتوبة، لتنقلنا الجدارية إلى القسم السادس وهو وجه لطفل يستخدم القناع للوقاية، وبذلك تنقلنا الجدارية بأسلوب فني يشد المشاهد من وجه المرأة التي تستخدم القناع ثم معقم الأيدي فالرجل الفقير فاستخدام الصابون وصولا للطفل واستخدام القناع الواقي، فحملت الجدارية الإرشاد والتوجيه بأسلوب فني وكانت الريشة باللوحات تلفت النظر أكثر من النشرات والإعلانات المكتوبة وبأسلوب يشد النظر، وصولا للوحة السابعة والأخيرة التي تظهر مشهدا مريحا هو النتيجة التي هدفت الجدارية لها، الراحة والتخلص من الوباء باتباع الارشادات، مع ملاحظة فنية أنه يوجد مقعدين للراحة والجلوس جرى دمجهما لونيا مع الجدارية حتى لا يكون لونهما الأصلي نشازا أمام الجدارية فظهرت المقاعد وكأنها جزء من الجدارية.
الجدارية الثانية: هذه الجدارية أيضا واضح انها على زاوية قوسية للسور الجداري الذي رسمت عليه، ولكنها كانت مختلفة عن الجدارية السابقة بطبيعة الموقع واختلاف الأسلوب، فالجدارية السابقة كانت تمتد على مدى واسع بعكس هذه الجدارية، وهنا نجد أن الفنان أو الفنانين لجأوا لموضوع التكثيف باللوحة، ففي بؤرة اللوحة كان رسم بحجم كبير لفايروس الكورونا بلون الدم، في اشارة رمزية واضحة أن الموت يقبع خلف هذا الفايروس، وشبح الموت يقف فوقه، ووضعه بهذا اللون والحجم والموقع في قلب الجدارية يهدف لشد الانتباه من المشاهد للفكرة ومن ثم ايصال الرسالة من الجدارية، فاللوحة استخدم فيها الفنان الأسلوب الحلزوني اللولبي، حيث بؤرة اللوحة في المنتصف ثم يأتي الانتقال الحلزوني للأطراف الأربعة للجدارية، حيث نشاهد على اليمين وسيلتين للمقاومة، تغسيل الايدي بالصابون جيدا واستخدام المناديل الورقية ورميها بعد الاستخدام بسلال النفايات، وبين هذه المشاهد الثلاثة للمقاومة نجد فايروس الكوفيد باللون النهدي بإشارة ان وسائل المقاومة تضعفه، بينما نجد على يسار اللوحة اشارات رمزية متعددة، فهنا نرى القناع “الكِمامة” على وجه الشاب، وضرورة تغطية الفم والأنف في حالة مفاجئة العطاس والسعال للشخص وهذا ما نراه بالمرأة، واستخدام معقم الأيدي، فلذا نشاهد أنه جرى رسم الفايروس باللون الأزرق وهو من الألوان الباردة، بإشارة رمزية ان هذه الوسائل مجتمعة من يمين اللوحة إلى يسارها تلعب دورا كبيرا بإضعاف الفايروس وإبعاده، ونلاحظ وجود يافطة تم تعليقها بشكل بارز فوق الجدارية تحمل اشارة الصليب الأحمر ورقم هاتف وإسم مؤسسة طبية لارشاد المواطن بمن يتصل.
من الضروري الانتباه هنا الى اللغة اللونية، فخلفية الجدارية اعتمدت اللون الارجواني وهو من تدرجات اللون الأحمر، بإشارة للخطر الذي يواجه المجتمع من هذا الوباء وضرورة الالتزام بالتعليمات، واستخدام الكلمات بخط واضح وجميل وبألوان جذابة تجعل المشاهد يقرأها، مع ضرورة الانتباه أن أسفل الجدارية طغى عليه اللون الأزرق وهو لون مريح وبارد، وكأن الجدارية تهمس للمواطن: الالتزام بوسائل المقاومة للوباء وبالتعليمات ستجعل الحياة هادئة وبعيدة عن الموت وعن التوتر.
الجدارية الثالثة: هذه الجدارية واضح أنها جزء من جدارية أكبر رسمت على سور مدرسة كما تظهر المباني بالخلف، وقد اعتمد هذا الجزء على قاعدة من اللون الأزرق الداكن وهو من الألوان القاتمة التي تنثر ضيقا على روح المشاهد، وقد رسمت يسار الجدارية على غرفة مولد الكهرباء صورة لإمرأة ترتدي قناع الوجه وتنظر الى المكتوب على الجدار أمامها، وهنا نلاحظ أن قبعة المرأة وردائها من اللون الأزرق المريح الأقرب الى لون السماء، وهذه محاولة ذكية من الفنان لإضفاء الراحة على روح المشاهد وكأنها يرمز بذلك أن استخدام الواقي والقناع يخلق قاعدة من الراحة، بينما باقي الجدارية اعتمد على الكتابة بأسلوب فني يشد المشاهد شكلا ولونا، فنجد أن قاعدة الأحرف حتى منتصف الجدار اعتمدت اللون الأحمر وهو لون الدم، وفي منتصف الجدار كانت قاعدة تلامس الأرض لعدة أحرف متصلة صورتها باللون الأحمر وكأنها بركان غاضب يخرج من قلب الأرض، في رمزية واضحة باستخدام اللغة اللونية مع الأحرف للتحذير، لكن بعد منتصف اللوحة من الأسفل بإتجاه الأعلى نرى أن ألوان الحروف تنتقل من الأحمر بلون الدم إلى الوان أاقل حدة وأقرب لهدوء الروح، حيث يتحول الأحمر إلى اللون البرتقالي الفاتح موشحا بمساحات بيضاء وخضراء بتدرجات من الأخضر بلون الشجر الى الأخضر الفسفوري المشع جمالا، في رمزية بلغة اللون مع الحروف بأن اتباع التعليمات لمقاومة الوباء تنقلنا من الخطر الى وضع افضل ومريح.
الجدارية الرابعة: هذه الجدارية تميزت عن الجدرايات السابقة أنها للفنان أحمد جابر عربي مصري يطلق على نفسه إسم “نيمو” وهو اسم مستعار، وهو فنان بدأ الجدرايات منذ عام 2009 وهو الآن طالب في كلية طب الأسنان، وهو اختار الجداريات لأنها توصل لوحاته وأفكاره ورسالته للشارع الذي هو مجال اهتمامه، فمن خلال الاطلاع على عدد من لوحاته وجدارياته نجده يهتم بالفقراء والبائسين والذين لا يجدون غير الشارع ليحتويهم، لذا يطلق على نفسه أنه “فنان شارع”، فلوحاته مستمدة من الشارع ومعاناة الناس فيه، فقراء وأطفال وبائسين ومشردين، وفي نفس الوقت الذي يهتم أن يظهر معاناتهم نجده أيضا يحاول أن يزرع الأبتسامة على وجوههم والأمل أن الخير موجود.
في هذه الجدارية نجده اختار طفلا مبتسما في مواجهة كل الظروف، ركز في لوحته على الوجه مباشرة “بورتريه”، وكانت الخلفية والقاعد جدار حجري وليس اسمنتي فأعطت أشكال الحجر جمالية أخرى للوحة، ورمزية مقصودة حيث ظهرت خطوط الفواصل بين الحجارة عرضيا وطوليا على الوجه، وهذا يشير لحجم تأثيرات الواقع المعاش على الطفل، وقد اختار الفنان الطفل ذو الوجه الأسمر والشعر الأسود الكثيف وجعل خلفية اللوحة بيضاء، فكان التناقض بين اللونين يعطي رمزية لظل الحياة على وجه الطفل، لكن في بؤرة اللوحة كانت الابتسامة التي تظهر أسنان بيضاء مع اللمعة البيضاء على الوجنتين والأنف، مما يعيدنا من جديد إلى الفرح رغم وضوح الفقر على الأسنان غير السليمة والدالة على الفقر، وجرى رسم القميص باللون الأحمر والرقبة تعلوه بلون كما لون الدخان المتصاعد، برمزية للثورة التي تعتمل بداخل هذا الطفل، لكنه لا يفقد الأمل من خلال الابتسامة ولمعة العيون الفرحة وليست البائسة، رغم البؤس الذي تشير اليه كثافة الشعر بدون تزيين وقص وتشذيب منذ فترة طويلة.
“جيوس 6/3/2022”