يظل تاريخ الحضارة العربية شامخا بما أبدعه أولئك الرجال الذين مهّدوا الطريق للأجيال المتعاقبة في شتى مجالات المعارف والافكار والفنون، ولقد بدأ ذلك الجهد مع علماء اللغة الذين حفظوا أسرارها في تلك المؤلفات الضخمة، وذلك منذ ظهور معجم (العين) للخليل بن أحمد الفراهيدي ومن جاء بعده. ولعلّ صاحب (معجم لسان العرب) ابن منظور الذي فكّر في وضع معجمه على نحو مختلف من تلك المعاجم في عملية جمع مادته اللغوية، وطريقة وضعها وتخريجها، وهو يعترف بسبب تأليفه لمعجم لسان العرب في مقدمة كتابه الضخم، لتعرف الأجيال بأن حياة المعرفة الخالدة. هي تلك الحياة التي كانت من تعب وجهد يعجز المرء عن وصفه. هذا المعجم الذي أصبح مرجعا كبيرا من مراجع اللغة وموادها.
هو محمد بن مكرم بن علي ابن منظور الأنصاري الخزرجي (630 هـ – 711 هـ \ 1232 م – 1311م) مؤرخ ، وعالم باللغة ، وقاضي: طرابلس الغرب ، وقال عنه ابن حجر: «كان مُغرًى باختصار كتب الأدب المطوّلة».
سبب تأليف الكتاب
ذكر ابن منظور في المقدّمة: الدافع في تأليف الكتاب، فقال: «وَإِنِّي لم أزل مشغوفا بمطالعات كتب اللُّغَات والاطلاع على تصانيفها، وَعلل تصاريفها؛ وَرَأَيْت علماءها بَين رجلَيْنِ:
أما من أحسن جمعه فَإِنَّهُ لم يحسن وَضعه،
وَأما من أَجَاد وَضعه فَإِنَّهُ لم يُجد جمعه،
فَلم يُفد حسنُ الْجمع مَعَ إساءة الْوَضع، وَلَا نَفَعت إجادةُ الْوَضع مَعَ رداءة الْجمع. وَلم أجد فِي كتب اللُّغَة أجمل من تَهْذِيب اللُّغَة لأبي مَنْصُور مُحَمَّد بن أَحْمد الْأَزْهَرِي، وَلَا أكمل من الْمُحكم لأبي الْحسن عَليّ بن إِسْمَاعِيل ابن سِيْدَهْ الأندلسي، رحمهمَا الله، وهما من أمّهات كتب اللُّغَة على التَّحْقِيق، وَمَا عداهما بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا ثنيَّات للطريق. غير أَن كُلًّا مِنْهُمَا مطلب عسر المهلك، ومنهل وعر المسلك، وكأنَّ وَاضعه شرع للنَّاس موردا عذبا وجلاهم عَنهُ، وارتاد لَهُم مرعًى مربعًا ومنعهم مِنْهُ؛ قد أخّر وقدّم، وَقصد أَن يُعرب فأعجم. فرّق الذِّهْن بَين الثنائي والمضاعف والمقلوب وبدّد الْفِكر باللفيف والمعتل والرباعي والخماسي، فَضَاعَ الْمَطْلُوب، فأهمل النَّاس أَمرهمَا، وَانْصَرفُوا عَنْهُمَا، وكادت الْبِلَاد لعدم الإقبال عَلَيْهِمَا أَن تَخْلُو مِنْهُمَا. وَلَيْسَ لذَلِك سَبَب إِلَّا سوء التَّرْتِيب، وتخليط التَّفْصِيل والتبويب. وَرَأَيْت أَبَا نصر إِسْمَاعِيل بن حَمَّاد الْجَوْهَرِي قد أحسن تَرْتِيب مُخْتَصره، وشهره، بسهولة وَضعه، شهرة أبي دُلف بَين باديه ومحتضره، فخف على النَّاس أمره فتناولوه، وَقرُب عَلَيْهِم مأخذه فتداولوه وتناقلوه، غير أَنه فِي جو اللُّغَة كالذرّة، وَفِي بحرها كالقطرة، وَإِن كَانَ فِي نحرها كالدرّة؛ وَهُوَ مَعَ ذَلِك قد صحّف وحرّف، وجزف فِيمَا صرّف، فأُتيح لَهُ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد ابن بري فتتبع مَا فِيهِ، وأملى عَلَيْهِ أَمَالِيهِ، مخرِّجًا لسقطاته، مؤرِّخًا لغلطاته؛
فاستخرت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي جمع هَذَا الْكتاب الْمُبَارك، الَّذِي لَا يُساهَم فِي سَعَة فَضله وَلَا يُشارَك، وَلم أخرج فِيهِ عَمَّا فِي هَذِه الْأُصُول. ورتبته تَرْتِيب الصِّحَاح فِي الْأَبْوَاب والفصول؛ وقصدت توشيحه بجليل الْأَخْبَار، وَجَمِيل الْآثَار، مُضَافا إِلَى مَا فِيهِ من آيَات الْقُرْآن الْكَرِيم، وَالْكَلَام على معجزات الذّكر الْحَكِيم، ليتحلى بترصيع دررها عِقْدُه، وَيكون على مدَار الْآيَات وَالْأَخْبَار والْآثَار والأمثال والأشعار حلّه وعَقْدُه.
فَرَأَيْت أَبَا السعادات الْمُبَارك بن مُحَمَّد بن الْأَثِير الْجَزرِي قد جَاءَ فِي ذَلِك بالنهاية، وَجَأوَزَ فِي الْجَوْدَة حد الْغَايَة، غير أَنه لم يضع الْكَلِمَات فِي محلهَا، وَلَا رَاعى زَائِد حروفها من أَصْلهَا، فَوضعت كُلًّا مِنْهَا فِي مَكَانِهِ، وأظهرته مَعَ برهانِهِ؛ فجَاء هَذَا الْكتاب بِحَمْد الله وَاضح الْمنْهَج سهل السلوك، آمنا بمنة الله من أَن يصبح مثل غَيره وَهُوَ مطروح مَتْرُوك»