محبوبة خليفة
صباحات هذه المدينة تختلف عن صباحات غيرها من المدن، حتى أقرب المدن إليها لا تشبهها في طلعة النهار الأولى حين تتسلل شمس الله من خلف (عقبة الفتايح)* وتخترق السحب مندفعةً ومشتاقة لوجوه أحبة ينتظرون بزوغها. هذه المدينة لا تعرف الخمول. تقول عجائزها: من ينام للضحى يمشي على جسده كل من استيقظ قبله. والمعنى هنا مجازي بالطبع، هن يُخِفْنَ التلاميذ الصغار في أجازاتهم والشباب المقبلون على عتبات الحياة حتى لا يعتادون الكسل. أردن أن يَقُلنَ لهم من يستيقظ قبلهم سيسابق الزمن ليحصل على رزقه ورزق النيام.
هذا الصباح يصطحب (عَليّ) شقيقته الصغيرة (دَرْنَة) مسرع الخطى فهذا اليوم هو يوم الجمعة وهو يوم زيارة الجدة التي لا تبتسم لوالدهم أبداً ولا تسعد بزيارته، لكنها تحب بذاره وترويها من ماء روحها وتفتح بيتها وقلبها لهم.
يحثُ عَليّ الخطو وتتلكأ دَرْنَة، هي تحب شوارع المدينة المبللة بأمطار ليلة أمس في صباح شتوي بارد النسمات
درنة تحب درنة يا علي اتركها تناجي سميَّتَها وتدللها بخطواتها الرشيقة
وتناجي بقايا رذاذ منهمل: “يا مطر يا رشراشة هدّمي حوش الباشا”*
بس الباشا ما عنده شي يا الحبيبة
تردُّ الجدة حين سماعها للصوت الغالي فاتحة بيتها مسرعة لاحتضان أبناء
الغالية عويشة.
تسألهم بتوجس: (وين امكم) وهي تعرف مسبقاً الإجابة: في الطريق هي ووالدنا.
مازالت تحمل في قلبها بقايا زعل قديم من ابنتها التي عاندت الدنيا من أجل الظفر بمن أحبته (حَمَدّ) الذي ظل على علاقة مبهمة بها رغم محاولاته المستميتة لاستمالتها وإرضائها وطمأنتها بأن ابنتها الأثيرة بخير رفقته.
درنة في نهايات الحرب العالمية الثانية تلملم الجراح. الجراح التي أصابتها في مقتل، جراح المعتدين على مدينة لا تعرف للحرب سبباً، لكنها دفعت ثمناً باهضاً، كما دفعته مدن ليبية أخرى ودفعته الدنيا ومعظم سكانها، بعضهم كانوا من مشعلي هذه الحرب وبعضهم كانوا مدافعين عن أوطانهم لكن درنة وبقية المدن المسكينة ليست من هذا ولاذاك لكنها.
توجعت المدينة الصغيرة كثيراً وطويلاً وعاد أهلها لسكن الكهوف -كأجدادهم الأوائل-فلا ملاجئ تقيهم القصف ولا مستشفيات تعالج جرحى هذه الحرب وضحاياها.
في هذه الكهوف نبتَتْ زهور ورياحين وتعطَّرتْ بها، وفي هذه الكهوف نمت المودة والحنان والمؤازرة، وفي هذه الكهوف وُلد دراونة كثيرون بعضهم سُمّي بأسماء تحكي قصة أهلهم في النزوح واللجوء.
وفيها أيضاً ولدت قصص حب كثيرة ففي الحياة متسع للحب رغم الموت النازل من السماء ترسله طائراتٌ لا تفرق بين عدو وبين قلوب واجفة يرعبها أزيز هذه الأجسام المخيفة فتحيل حياتها إلى قلقٍ ورعبٍ دائم.
الحب لا اشتراطات له ولا زمان ولا مكان محدد، يولد في الكهوف كما يولد في القصور ويولد بين النازحين كما يولد بين المرفّهين. الحب يوجد حيث يوجد قلب إنسان.
كانت عويشة تحكي قصتها لكل من تعرفه، مَرّت على كل الحقاف* علّ إحداها تأوي حمد وتوسلت كثيراً وطويلاً أن يبحثوا معها عن حَمَدْ هي لم تعد تخشى أحد هي تريد أن تعرف أين هو فآخر مرة وجدت بجوارها بطّانيته ومزماره ثم لم تر له أثراً يدل عليه.
في إحدى الصباحات الندية ببقايا ليلة ماطرة كانت عويشة لاتزال تغط في نومها مجاورة رفيقتها مريم وكان رفاق الحقفة قد استيقظوا باكراً وغادروها للسعي فلا مجال للبقاء والأفواه جياع، فالنهار أصبح أكثر أمناً وبلا أصوات أزيز الطائرات والحرب تلفظ أنفاسها الأخيرة وما بقي هو بعض خوف من الليل، فالظلام مأوى للمفاجآت!
من يعلم فقد تعود تلك الأجسام السوداء فتهدد أرواحهم القلقة بين مشاعر خوفٍ وتوجس وبين بعض فرح أن ربما انتهت هذه الحقبة القاسية فلا أحد يعرف هل توقفت الحرب أم لا ..
أيقظتِ الصبية بعض همساتٍ تحوَّلت بعدها(لحَكْي)بصوت عال ثم لعراك بالكلمات، كانت ضجة نسائية، أحسّت عندها عويشة أن أمراً ما يحدث على بعد خطوات منها، فتحت عينيها لتتأكد أن ما يجري حقيقةً لا حلماً يراودها في ليلها الطويل.
رأت أم حمد وبعض نساء يرافقنها لازلن بجرودهن* فأدركت أن الأم لم ترحب بهن ولم تجلسهن لكنهن لم يأبهن لها.
قالت إحداهن صائحةً: يكفيك كِبَر
اقفلي باب خيالك يا امرأة صرنا في هذه الحرب سواسية، التاجر والراعي والزمّار* والدرباكة* كلنا نتلقى القنابل على رؤوسنا، وكلنا نحتمي بالحقاف وكلنا نعيش على الكفاف وكلنا بين يدي الله لا نعرف أي نهاية تنتظرنا.
تندفع أخرى متسائلة بغضب: من أدخل الفرح إلى حقافكم غير زمّارة* حَمَدّ وعواطفه ومحبته الغامرة؟ أفيقي يا أم عائشة فالوقت يمضي، لا تشاركي مجرمي الطائرات أفعالهم هم حبسونا في هذه الحفر حيث عاشت الذئاب والمعيز قبلنا، صرنا مثل هذه المخلوقات، نخشى الموت فلا نجد إلا الكهوف تأوينا. هل ستقيمين الأفراح إن اقتنصت هذه الطائرات ابنتك أو من اختاره قلبها. اي حجر أصمّ سكن جوفك يا امرأة.
تهاوت أم عائشة (نص الدنيا)* كما كانت تُكَنّى -نظراً لرفعة شأنها ولقلة تواضعها- واندفعت تهذي بكلمات غير مفهومة غير أن إحداهن سمعتها بوضوح كانت تقول :(على كيفها على كيفها)* فاطلقت أم حَمَدْ زغرودة وقفت عويشة على إثرها في حالة ما بين الصحو والرُقاد ثم تهاوت على الأرض في إغماءة لطيفة لا تقلق أحدا.. ما جرى لعويشة كانت دقةُ حبٍ عنيفة على باب القلب الملهوف فلم يحتمل وأرسل إشارة إلى البدن يأمر ببعض دلال فللأبدان حالات غير مفهومة ولها شيفرات متبادلة بينها وبين القلوب الناعمة.
انتهت
*عقبة الفتايح: منطقة بمدخل درنة الشرقي والعقبة مرتفع جبلي منحدر باتجاه المدينة.
*يامطر يارشراشة: أغاني الأطفال عند سقوط المطر.
*الحقاف: جمع حقفة وتعني الكهوف.
*الجرود: مفردها جرد وهو رداء الخروج للسيدات في ليبيا.
*الزمّار: عازف المزمار.
*الدرباكة: عازفة الطبلة.
*الزمّارة: المزمار.
*نص الدنيا: لقبٌ معروف في درنة يلقبون به النساء ذوات المكانة الرفيعة. ولا علاقة للاسم هنا بأي اسم مشابه لسيدات معروفات في المدينة.
*على كيفها: بمعنى لتفعل ما تريد وتعني ابنتها عائشة.