محمد دربي
1
أي خيطٍ خفي يربط بينها وبينه، خيطٌ طواه الليل القصي، وفي أيّ طرف من أطراف المسافات الغائمة يُطرّز الخيط غرفةً قصيةً بالأحلام، خيطٌ من راحِ وردةٍ في كأسٍ شفّاف يحمله بُراق شوقٍ طليقٍ عبر دهرٍ سادرٍ، دهرٌ لا ينتهي يشعل القلب والروح التياعا واحتراقاً، تعرف ذلك عن يقين، لم تسترح بعد من نُشدانه رغم أنها تعرف دقاته.. إنّه خيط يمسح دمع النوافذ يجمع بين أميرة فيها حسنٌ فارسي ورقة إسبانية وعُرف أندلسي ، يرقص البحر لها تقرباً ، حنايا السحائب تصغي لهفاً لرنين صوتها العذب ، خيطٌ خفي بينها وبينه ، فارسٌ يدنو منها عن بُعدٍ مُتردداً انتشى يوماً من لحظها، من زمنٍ بعيد ، يتسلق غصن أفق السراب ، مُعذبٌ ملتاحٌ ، ما كان له تجربة في العشق ولا يعرف من دفاتره إلا طفيف أحرفٍ ليس تعرف للوجد والشوق معنى ، فاضت طلاسم العشق في روحه من حُرقتها ، فارسٌ مقبلٌ من أُفقٍ تفزّ منه نجمةٌ خفوقة لهفتها تشجُّ وجه الصباح وأزهاره الندية ، تمسح عن ألامه كلما ازداد بعداً أو دنى قرباً. .
2
حيل بينها وبينه في زمن مغسول بالشوق والأسرار، زمنٌ لا يبحر في البيد ولا يعبأ بالوهم العارض يحمل في كفه نجوم السحر.. بمنتهى الحكمة والنضوج الأميرة تُدرك أنّ شعلة حُسنها لا تنطفي ولا تذبُل.. رمته ذات عشيةٍ بسهام لحظها، رمته بنظرة عًجلى ألقت به في فضاءات حلمٌ دائم ٌ، سكن بين سهام الليل في زنزانة نجمةٍ طال سفرها بين النجوم شوقاً لرؤية سمت الأميرة.. طال سفره في بحر الهوى، طال تحت شهوة الغيم البليل
أسير عيناها السوداوان الساحرتان.. رحل كالمهزوم نحو الشمال، رحل وما طرق الباب، رحل دون أن تسمع منه هتاف المنى، رحل دون أنْ يًقريها الوداع، هام في الدنيا شارداً، هام على وجهه لا يلوي إلى بلدتها.. صُدت أمامه سُبل الرجوع، ينتحل هيئة السكينة وفي فؤاده حماْءٌ سعيرٌ.. في غيم الأيام ظل الزمن يحبو نحو وميض البشارة.. انفتح الروض أمامها تُناديه من سحر عينيها وظل مسافراً في ردهة الزمن ينتظر حديثها جالساً على شرفة الوهم لا تفارقه ملامح وجهها المليح.
3
بينما الحلم ينمو في ماء الندى، رام من الأسماء اِسمها، فسماها أميرتي، إنْ هي أميرته، اِسمها موصولٌ بروح ماء الزهر، موصولٌ بغرغرة السواقي اليانعات.. تعرف الأميرة أنّ شباك عينيها يغوي من يُبصر فيه فسِحره نافذٌ يلقي بمن ذاقه في أسرها حائراً، معبوداً في أسرها أما فارسها فقد جعلته سلطان العشاق فصار كما شاءت.. تصغي لصمت غرفتها، تعرف أنّ وجهها بالحسن مُنسّم.. أزهار أمنياتها تتحدى الذبول، تنمو مع نمو أحلام الخيال.. في أحد الأيام المسكون بالشوق، أحست بحنينه يُرسل نبراتَ شجنٍ سكنت فؤادها، أحست بنهر من فيض الأنس يطوف في خيالها.. ومن النجم تتفجر الساعات، فدارت الأيام مع دورة الدهر، دارت فغردت باِسمها واستعارت من حمرة وجنتيها ُحمرةً لورود البساتين المجاورة.
4
من غبطة الدهر تحرك بخور البيت، سرى من عرينه، تسلق جدران غرفة الأميرة.. كانت تلبس حلتها المطرزة بالزمرد.. أيقنت أن لا مفرّ، أين المفر ففي المنافي والفيافي يغني القدر، أجل، ألقت السمع في الليلة القمرية، سمعت نداءً أقرب إليها من نسيم عطرها، أين عنه تحيد نداءٌ فيه هتاف ينفث نسمات ماضٍ ظنّته انطفئ، نداءٌ ناله الشيب والهرم.. تحيرت في الأمر قليلاً، شعرت بنشوة الغرفة الغراء.. من وراء السحائب الشاردة وصلها منه ورد الكلام، شذاه عطر رائق تتفتح له الأبواب. تعرف أنّ كلمات عشق تتقافز في رأسه لا يدري لها سببا.
5
أبصر الفارس زينة السماء، سمع حفيفاً رهيفاً، كلمته عن قُربٍ النجمة المسافرة، سألته عن الأميرة إن كان يدري هي الآن، تعجب، قال: أعرف فأنا أحملها مثل تعويذة زُمردية تمسح من دمع غربتي مع كل شجن وصحبة لحن سنباطي.. تمايلت النجمة وهي تبعث الأحلام من هجعتها، تنفست ملء رئتيها وقالت ما أسرع ما طارت الأيام والسنوات وبعد لحظة صمتٍ أضافت:
لتسمع إنْ شئت السمع هي الآن قد أخلصت ودّها لمرآة غرفتها، تُظُهر لها جمالها الفاتن وسحر عينيها الذباحتان أما فرعها الأندلسي المغطى ببستان مبرقع بالياسمين والقرنفل يسقيه البخور الحالم من صبواته حُسناً، تُسمع المرآة رنين شدّوٍ من لحظها منتصف الليل في غرفة شاع رحيق الورد بها وداعب العطر حمرة وجنتيها.
6
ساد سكون الليل في غرفتها، نور القمر يغازل نور شُباكها، سكون يهفو حولها، عهدته يغلي، سكونٌ يناجي ثغر البخور.. مضى وقتٌ كانت تخاله دهراً، تهيم في ملكوت أفكارها، دنت من المرآة بدلالٍ، تتمايل كنسمة السحر، سمعت البخور يهمس في مَرحٍ: ما لحسنك ثانٍ، اقتربت من المرآة أكثر، ابتسمت فظهرت لعينها في المرآة أجمل بسمة.. كأنها سمعت صوتاً نادى من الغيب: ” هامت بك العين.. فمن علّم العين أنّ القلب يهواكِ “.. تاهت مع الصوت.. الليل ممتد ينثر اسرار النجوم المتوثبات.. ازدادت قرباً من المرآة.. أباريق وجهها باسمةٌ.. بدت مترددة ثم همست بثغرٍ هامسٍ: أراني جميلة، أكدت لها المرآة: جميلةٌ، مليحةٌ، مثل نوار العشية وورد الصباح، ابتسمت، حلائل نجوى تلفها، دون اِستئذانٍ دار بها الهوى، تسلل طيف الوصل في خيالها، أحستْ بعطشٍ لقطرات ماء بارد من كأسٍ أزلي، علّه يطفئ ظمأها هكذا ظنّت.. هبط الليل على ديار المدينة.. ريحٌ خفيفةٌ تغني في الدجى تناجي هسيس بساتين المدينة وزهرة اللّماح.. هناك نجمةٌ تسافر بين براري السماء طال سفرها، تقترب من مدار غرفتها.. تتناهى إلى مسامعها أغنية آتية من سحائب الغيب أطربتها: ” بين ماضٍ لم يدع لي غير ذكرى عن خيالي لا تغيب … وآمال صوّرت لي في غدٍ لقيا حبيبٌ لحبيب”.. أحست أنّه يهفو اِليها، يغني لها.. أثير بخور الغرفة يرقص ويداعب شعرها.. خيالُ بحر موجٍ يموج بوجدانها له سرد ينكسر عند الصخور.. حسنها روضٌ تخلده الأرواح، البخور يفهم الّصّبوات، طالعٌ معطراً معطراً معطراّ.
7
نجومٌ زهراء تحلق فوق شبابيك حسان المدينة، عيون ساهرات، عيناها الساحرتان تتأملان غرفة ًتدور مع معارج السّهاد، شعرها الأسود مُنحدر على سفوح كتفيها، ثغرها الإقحواني مزهرٌ مبتسم، أناقة أنفها في أنفها الأقنى، عرفُ طيبها يزيد بخور الغرفة طيب، ألقت السمع لهتاف المنى، القت النظر لعميق الصمت، التفتت إلى وميض المصباح الهادئ، التفتت التفاتة هادئة، ضوء المصباح يقتطف من خدها وردة، شاع رحيق البخور أكثر، راحت تحدق في المرآة تسألها: هل يستعير البحر عند غربته المرجان من عرائس البحر؟ وهل يشكو الملح من العطش؟ تنهدت، عطر البخور يرافق فؤادها طرباً، طرباً، طرباً.
8
تعطلت كلمات المرآة وفي عينيها ابتسامة نبيلة، المصباح البهيج اعتصم بالسكوت، تباعدت في دلالٍ عن المرآة هيمانة، انحسر الضوء، استلقت على مخدعها الوثير، هدأت الغرفة في سكون شامل.. قُبيل الفجر وهي حالمةً سمعت صوتاً هاتفاً من أسرار العلن، آتياً من معالم الأنس، قادماً من حدائق السلوى، هتف باسماً باِسمها: ” أميرتي، اإستيقيني إنكِ مرعية لا مهملة ولا منسية “.. هاجت شفة الصباح النضرة، اختالت غير قليلٍ في لحنها تُقريها رسالة من فارسها المسافر شارداً: ” هامت بكِ العين لم تتبع سواك هوىً“.. اِلتقت الروحان في الغرفة.
امريكا – herndon