من مفكرة جهادي سابق
اسمي بهاء الدين أحمد الحبارى، كنيتي المقداد، ولدت في جنيف، ودرست فيها المرحلة الأولى من تعليمي الابتدائي، عاودت دراسة السنتين الخامسة والسادسة في المدارس الليبية في طرابلس بعد صدور قرار وزارة التعليم الليبية خلال نهاية السبعينيات، بمنع الليبيين من الدراسة في المدارس الأجنبية. والدي المقدم المحال على التقاعد الإجباري يوسف الحبارى .. اسمي مركب، لأن والدتي كانت تريدني أن أحمل اسم جدي لوالدي وهو عمها، ووالدي كان يريد أن يطلق علي اسم صديقه بهاء الدين موسى، الضابط في جيش المملكة الليبية.
أنا ليبي الجنسية من جماعة “إحقاق الحق”، جماعة صغيرة ذات مرجعية سلفية، تأسست في العام 1986، كان هدفها نصرة الدين، والقضاء على الهرج والمرج الذي أخذ في الانتشار في مجتمعنا.
شاركت في حرب العراق الثانية، ثم غادرت إلى سوريا بعد الشقاق الذي حصل بين مقاتلي صدام والمقاتلين الأجانب، عدت للعراق لأشارك في حرب الدفاع عن المطار، انتقلت بعدها لمحافظة الأنبار، واليوم أنا أسير لدى الفيلق الأمريكي 107.
لقد تمت مبادلتي بأسير عراقي لدى القوات الأمريكية، من قبل مليشيا “ألوية الحق” بسبب ما قالوا أنه ارتياب في سلوكي .. تم إلباسي البزة الأمريكية المموهة، ووضعوا شريطًا لاصقًا على فمي .. وأوهموا الأمريكان أنني ابنهم المختطف.
بدأت القصة عند تمشيطنا لبعض الأحياء المسيحية في الشمال، كانت الشمس تتلوى على مسرح أفق محافظة نينوى، وتتلاشى رويدًا .. لم نكن نتجاوز تسعة مقاتلين، أنا والمثنى زميلي المقاتل العراقي اتجهنا لبيت في طرف الشارع .. دخلت كالعادة أولاً على اعتباري مقاتل من الدرجة الثانية .. تجولت في البيت الذي يبدو أن سكانه قد غادروه منذ فترة قصيرة .. طلب مني رفيقي تمشيط القبو ريثما يلتحق هو بمقاتل آخر في بيت مجاور.
Merveilleux mon petit
أينما يممت، وجدت تماثيلًا للسيد المسيح وصورًا لمريم العذراء .. وتحت الدرج بيانو صغير من خشب الزان .. وأوراق لنوتات موسيقية مبعثرة .. هذه نوتة سيمفونية “دخول الجنة”، وهي واحدة من أجمل إبداعات الموسيقي اليوناني الشهير فانجيليس .. وعلى الجانب الآخر سيمفونية “هللويا” لهاندل .. أصابع البيانو مازالت رطبة، رغم كونها قد قدت من عاج الفيل الصلب .. عادت بي السنوات إلى شارع لوزان في جنيف، حيث كنت أسكن مع عائلتي بداية السبعينيات، عندما أشار جمال عبد الناصر على القذافي في أول زيارة له لليبيا، باستبعاد كبار الضباط، وإيفادهم لدول عربية وأجنبية، حتى لا يحدثوا أي تشويش على السلطة الجديدة في البلاد .. تذكرت فترة دراستي في مدرسة السيدة براون، ودروس تعلم العزف على آلة البيانو .. والتي تركتها بعد انتقالنا للعيش في مدينة الزاوية، مسقط رأس والدي .. جلست أمام البيانو الصغير وأصابعي تتسلل باستحياء لتمتد فتلامس أصابعه .. ياه لم يحدث شيء كهذا منذ زمن طويل .. تذكرت حينها كلمات معلمتي السويسرية عن السيمفونية التاسعة، التي تسميها خطأ بيتهوفن الذي تحول لأشهر الألحان العالمية .. كانت أصابع البيانو تنادي كل خلية في أصابعي لتعانقه، فيؤلفا معًا النغمة الصحيحة .. انبرى أمامي جمهور كبير وأخذت الأجسام تنمو من تحت السجادة الفارسية المزركشة التي كانت تغطي نصف صالة الجلوس ..ظهر لي وجه أمي وهي تبتسم فخراً .. فيما وقف والدي ليصفق بكامل ما أوتي من قوة .. مدرستي في الطرف القريب تزلزل القاعة بصوتها Merveilleux mon petit .. فيما أم ووالدتها تقتربان وتضعان أيديهما المرتعشة على طرف البيانو .. دموع الأم كأنهما دجلة والفرات، فيما تتمايل الطفلة طربًا.
- لا يمكن أن تكون إرهابياً .. بادرتني الأم وهي تجهش بالبكاء.
يا إلهي من أين خرجتما !!
تحسست الكلاشنكوف .. وأمرتهما بالابتعاد .. تعودنا ألا نثق في ضحايانا !!
- لا يمكن أن تكون إرهابيًا
أعادت السيدة الثلاثينية تفجير قلبي .. أحسست أن مشاعرًا كان الزمن قد دسها في غيابات الجب منذ سنين، عادت للتدفق !!
- قالت بلهجتها العراقية التي أحبها .. شو حطك عليهم .. إحساسك في العزف يقول إنك هواية طيب.
لحظة الخروج من الكهف
أخذتني السيدة من خناقي، وألقت بي على الجدار .. دون أن تلمسني .. أحسست أنها أخرجتني من كهفي الذي أمضيت فيه أكثر من عقدين من الزمن .. أعادتني للمدرسة الفرنسية في طرابلس .. أعادتني لبيتنا في شارع سيدي خليفة .. إلى طفولتي هناك .. مضت بي لمدينة الزاوية بعد أن ترك والدي بيتنا المستأجر لمالكه، عند صدور قرار القذافي (البيت لساكنه) .. ألقت بي في سنوات مراهقتي الأولى في مدينة بنغازي .. في حي سيدي حسين حيث بيت عمي الذي كنت أقضي فيه الصيف كهدية من والدتي .. أحيت الخلايا الميتة في ذاكرتي .. لتعود لي أفراح حضرتها في الصابري والسلماني الشرقي، ودريانة، والماجوري .. أعراس شاركت في إحيائها كعازف للأكورديون، ومطربًا شعبيًا تنكر تحت اسم مستعار، قبل أن تأسرني السلفية .. بدأت استرجع صوت عبد الجليل عبد القادر، وجمال عاشور وحميد الكيلاني، والمهدي الهيلع.
أعادت السيدة جملتها .. فخرت من جمجمتي خطب الجمعة، وفتاوى التحريم، والقتل، ودروس جامع الحشان.
أعادتني طفلًا عاريًا عن الآثام والعقد.
أشحت ببندقيتي عنهما وطلبت منهما الخروج من الباب الخلفي للبيت .. لأننا في الأغلب سنضرم فيه النيران .. غادرتا بعد أن منحت لهما ما لدي من مال .. وهو بالكاد سيوصلهما لأقرب منطقة آمنة.
- لماذا لم ترافقهما لأقرب مكان آمن ؟
بادرني ضابط التحقيق بالسؤال.
لا أدري يا سيدي .. هذا ما أملته علي فطرتي.
خضعت لنفس الأسئلة ونفس التحقيق واحدًا وثلاثين مرة .. بدأت التحقيقات في الأول من أكتوبر وانتهت بنهاية الشهر .. مازال المحققون الأمريكان يعتقدون أن فيلق “لواء الحق” قد استبدلني بمقاتل عراقي لغاية ما زلت أخفيها .. خضعت لحجر صحي، وكشف بالأشعة السينية .. ولمختلف التحاليل الطبية قبل الخضوع للتحقيق .. لا شيء في جسمي يوشي بشيء .. اكتشفوا مبكرًا أنني لست قنبلة بيولوجية .. ولكنهم لم يستطيعوا معرفة لماذا قذف بي المقاتلون العراقيون لقبضة المارينز !!
- ببساطة يا سيدي، لأنهم بدأوا يشكون في سلوكي .. هذا كل شيء يا سيدي !!
- هل ما زلت تعتقد أنك يجب أن تقتلنا، وأن الموسيقى حرام، وأن النساء لا يجب أن يحدن عن طريق واحد قوامه من البيت للقبر .. هل ما زلت تؤمن أننا كفارًا .. وأنك يجب أن تستقي دينك من كتب من تسمونهم مشايخ، لم يلتقوا يوماً نبيكم، ولم يزوروا مكة أو المدينة حتى؟
غادرت العراق إلى مسقط رأسي حيث قبلت السلطات السويسرية أخيراً طلب لجوء تقدمت به محاميتي .. الضابط الأمريكية السابقة “أرييلا”.. وزوجتي الحالية.
عدت لحديقة الساعة، ونافورة بحيرة لومان .. ومراعي نيون .. والممر الكبير Le Grand Passage de Genève إحدى علامات المدينة المميزة، زرت قبر معلمتي السيدة براون، ووضعت فوقه إكليلاً من الزهور .. احتفلت مع زوجتي بأحد أعياد ديانتها وهو عيد “البوريم” ولم أرها تأكل خلال المناسبة خبزًا قد صنع من دم طفل ذبح لهذه المناسبة، كما كنت اعتقد .. سألتها عن هذه القصة .. فلفت يديها حول عنقي وقالت لي:
- في حال لم نجد أطفالًا لنذبحهم، يمكننا أن نذبح أزواجنا من المسلمين.
ضحكنا سويًا، حد الدموع، عانقتني وكأنها أمي، وأمضينا الليل نرسم مستقبل أولادنا.
أنا اليوم كبير باحثي مركز جنيف للدراسات والبحوث حول العالم العربي ودول المتوسط .. وما زلت اسأل نفسي ذات السؤال: لماذا ذهبت للعراق ؟
طرابلس: 27 سبتمبر 2021