مقدّمة:
تطمح هاته القراءة إلى إنجاز غاياتها المعرفية مدفوعة بدافعين، ذاتي يُمثّل نقطة البدء، وحافزاً أوليّاً يدفع الدارس نحو اختيار هذا الموضوع نظراً للعلاقة التي تربطه بهذه النصوص، وبصاحبها، وموضوعي يُعيد صياغة هاته الرغبة الذاتية في شكل رؤية معرفيّة، تتغيّا تقديم قراءة موضوعية، لا تنحاز إلا للنص، وتسلك من أجل بلوغ أهدافها، واختبار صحّة فروضها، منهجاً تحليليّاً، يعاين من خلاله القارئ النص على أنه بنية لغوية لازمة مكتفية بذاتها، تنطلق منه رحلة البحث لتعود إليه مستضيئة بدراسة غاستون باشلار عن جماليات المكان، ومفيدة من آراء يوري لوتمان في دراسته الموسومة بمشكلة المكان الفنّي، ومستنجدة ببعض مقولات الأنثروبولوجيا في كتاب جيلبيير دوران لإعادة الانسجام لبعض الصور الحلميّة التي تتمحور حول المكان الذي يسم النص عبر حضوره المتناقض بطابع التوتر، ويسهم بذلك في خلق فجوات تنشأ من لا منطقيّة العلاقة بين الكلمات المكانيّة؛ أي الكلمات التي تُحيل على المكان مباشرة، أو تلك التي يستدعي حضورها حضور المكان نحو الشخصيّات والأحداث.
تزعم هاته القراءة أنّ حضور المكان في النص الشعري مرتبط بحضور بعض عناصر السرد، هذا الزعم يُشكّل فرضيّة ومنطلقاً لهاته القراءة التي ستحاول أنْ تقف على تجليّات ذلك الحضور، تستنطق النصوص، وتنصت إلى تمتماتها، وتنظر في الأماكن المغلقة والمفتوحة، والعالية والمنخفضة من أجل تحديد سمات المكان الشعري في نصوص يوسف إبراهيم.
تسعى هاته القراءة للإجابة عن عدّة أسئلة يقدحها التقاء الشعر بالسرد عبر دراسة المكان، بوصفه مكوّناً سردياً، في نص شعري، من هنا تتفتّق بعض الأسئلة عن سمات المكان الشعري، ومدى إفادته من بعض عناصر السرد؛ لكنّ السؤال الأهم الذي يُطرح هو: كيف يتحوّل المكان إلى بانٍ كلّي للنص الشعري؟
1_ المكان المغلق والمكان المفتوح:
تمتاز الأماكن المغلقة بحميميتها وخصوصيتها، فالركن والحجرة والمنزل أماكن أليفة(1)
تحظى بخصوصية كبيرة لكونها تتكتم على أسرار ساكنيها المحتمين بها من اتساع الخارج وشراسته، كما أنها تعوض الإنسان عن فقدانه منزله الأول الذي يُنفى عنه بفعل الولادة التي تضع الإنسان في مواجهة العالم؛ لكنّ ذلك لا يعني أنّ ألفة المكان المغلق دائمة في النص الشعري؛ ذلك أنّ “المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أنْ يبقى لا مبالياً، ذا أبعاد هندسية وحسب، فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط؛ بل بكلّ ما في الخيال من تحيّز”(2)، وهذا يشي بالتأثير المتبادل بين الإنسان والمكان مما يعني أنّ ألفة المكان أو عداوته ترتهن بحضور الإنسان فيه.
1.1: استعادة الرحم:
يستدعي فِعْلا (الولادة والموت) مكانين مغلقين تنهض العلاقة بينهما على التناقض؛ إذ في حين يبرز الرحم بوصفه مكاناً للحياة؛ يقرّب القبرُ إلينا صورة الموت، رغم ذلك ينجح نص (سيناريو: أربعة مشاهد حية) (3) في التوحيد بين فعلي(الولادة والموت) مقرّباً المسافة بين مكانين متباعدين ليبتنيَ تصوراً جديداً للمكان، يقدّم القبرَ بوصفه رحماً آخر؛ إذ “ليست الحياة سوى انسلاخ عن أحشاء الأرض، بينما يمثل الموت عودة الإنسان إلى المنزل…، والرغبة الشائعة في أن يُدفن الإنسان في أرض وطنه ليست سوى المظهر الدنيوي للعودة الصوفية إلى الجذور إلى الجوهر، سوى رغبة في العودة إلى المنزل الأول”(4).
يتجسد المكان في هذا النص عبر فعل الولادة، وشخصية الجثمان؛ حيث نقرأ في المشهد الأول:
في غيبة ضوء الشمس الضائعةِ
يولد جثمانْ
ينفض عن عشب الرأس المنفوشِ
غباراً أزليّاً ودخانْ
يفتح عينيهِ
يترجل عن حفرتهِ
ويمزق قيد الأكفانْ
يسمع في الأفق صريخاً:
-“جبلٌ يعصمكم من طوفان
جبلٌ يعصمكم من طوفان”
يشي العنوان (سيناريو: أربعة مشاهد حية) ببنية دراميّة تنوجد داخل هذا النص الشعري، وبما أن “كل نوع أدبي يفتح أفقَ انتظارٍ خاصاً به”(5)، فإن سلطة العنوان تقطع أفق الانتظار هنا، فتفقس فينا دهشة التوقع التي تغدو أسئلة تحلق في فضاء القراءة ناشدة تدخل القارئ كي يفض هذا التداخل بين الشعر والسرد.
أفاد النص من الإسناد (يولد جثمان) في خلق فجوة: مسافة توتر(6)، تستحضر في الوقت نفسه: صورتي الرحم والقبر، وتجسد رؤيا مغايرة تفلت من سلطة الواقع الذي يُعاد تشكيله مما يستوجب إيقاد فتيلة القراءة لعلها تبدد كثافة النص، فعلاقة الرحم بالقبر التي تبدو في ظاهرها ناهضةً على التناقض، تنطوي على صلات خفية وثيقة؛ إذ إن الرحم مكان حميم لارتباطه بالأم التي ما انفك الإنسان يحلم باستعادتها، وما إن يتعذر عليه ذلك حتى يتجسد القبر على نحو مختلف بوصفه مكاناً حميماً يتيح للإنسان أن يستعيد أمه (الأرض)؛ فهناك “معتقدات متفرعة عن دفن الموتى تؤكد مفهوم انقلاب معنى الموت…، كما أن كثيراً من الشعوب يدفنون موتاهم بوضعية الجنين داخل بطن أمه، وهذا ما يفسّر بشكل جلي أنّ نظرتهم إلى الموت تنطوي على انعكاس للرعب الملازم له طبيعياً، وعلى تصورهم له كرمز للراحة الأصلية المفقودة”(7).
هكذا، يصالح النص بين الرحم والقبر، فتتجسّد العلاقة بينهما بوصفهما مكانين مغلقين، يمثّل كلٌّ منهما علاقة الإنسان بأمه التي تتمثل في الأرض عبر فعل التوحيد بين الولادة والموت؛ فالقبر يتخلّى عن عدائيّته للإنسان، وفعْل الولادة يغدو فعل موت، وهو ما يجعلنا إزاء فيض دلالي في هذا النص الذي ينفتح على أكثر من معنى، فولادة الجثمان تنزع عن فعْل الولادة بعده الزمني، وتُكثّف في المقابل زمن الموت عبر تغييب الشمس، لكنّ النص ينحج من جديد في التقريب بين صورتي الرحم والقبر من خلال الصورة التي يبتنيها الانزياح في قوله: (يترجّل عن حفرته)، ففعل الترجّل يرسم صورة مغايرة للقبر تجعله أقرب إلى الرحم، هذا ما يؤكّده حضور الأفعال الدالة على الحركة نحو: (ينفض، يفتح، يمزّق)، وبناء على ذلك نستطيع القول إنّ ولادة الجثمان رمز إلى لا جدوى الإنسان الذي يولد ميّتاً، مسلوب الحقوق والإرادة.
2.1: الولادة الثانية:
يفيد هذا النص من دلالة النص الغائب في تشييد المكان الشعري؛ ذلك أنّ استدعاء شخصيّات بعينها يقتضي بالضرورة استدعاء حمولاتها الدلاليّة، من هنا يمكن القول إنّ علاقة الرحم بالقبر توحي بمكان ثالث شريك لهما، حيث ينماز التابوت بأنه مكان مغلق، يلعب دوراً رئيساً في رحلة استعادة الأم، ومما يؤكد هذا الزعم أن بطن الأم والقبر والتابوت تتمثل بالصورة نفسها عند محلل رموز الراحة وتخيلاتها(8).
تُضحي القراءة فعلاً يتجاوز حدود النص الحاضر ليجوب فضاءات النصوص الغائبة التي ينبني النص في ضوئها، وبالعودة إلى نص (سيناريو: أربعة مشاهد حية) نستضيء بالنص القرآني بوصفه نصاً غائباً في قراءة المشهد الثاني:
يمشي صاحبنا في الظلمةْ
حافي القدمينْ
يتشكّل ظلاً للعتْمةْ
يبحث عن خمرٍ
يزدرد بها غصتَهُ
عن أذن تعذر بحّتَهُ
عن مأوى يرحم غربتَهُ
يبحث عن قبسٍ
عن نورٍ يهدي مشيتهُ
في ليلٍ داجٍ
لم يطلع فيه البدرُ
ولم تظهر فيه النجمةْ
يمثّل هذا المشهد عودة الإنسان إلى الفطرة البدائية مفيداً من علاقة الأقدام الحافية بالطفولة؛ إذ كثيراً ما تقرن القدمان الحافيتان بالطفل البريء(9)، كما أن النص الغائب يسهم في بناء دلالة العودة إلى الفطرة؛ ذلك أننا نقرأ هذا المشهد في ضوء قوله تعالى: ﴿وهل أتاك حديث موسى ¤ إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنستُ ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى ¤ فلما أتاها نودي يا موسى ¤ إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى﴾(10).
ترتبط شخصية موسى عليه السلام بالتابوت ارتباطاً وثيقاً، حيث يبرز التابوت على أنه المكان الحميم الذي ولد منه موسى عليه السلام ثانية، إنه المكان الذي أتاح له استعادة أمه عبر رحلة أولى مهّدت لرحلة ثانية إلى فرعون وقومه تدعوهم أن يعودوا إلى فطرة الإيمان، وبالعودة إلى هذا المقطع نقف على العلاقة الوثيقة بين فعْل المشي وغياب المأوى الذي يجعل الحياة رحيلاً دائماً من غير وجهة، فالبيت هو عالم الإنسان الأول، بوجوده تبدأ الحياة مُسيّجة محميّة دافئة(11)، كما أنّ النص في هذا المقطع لا يزال يُلحّ على تكثيف العتمة، وتغييب الضوء، ومن ثمّ يُصبح الليل زمناً مغلقاً ذا أبعاد مكانية، تماثل ظلمته ظلمة القبر والرحم.
3.1. تابوت آخر:
يشكّل البيت “جبلٌ يعصمكم من طوفان” شبه لازمة تتكرر أربع مرات في النص مع بعض التغيير الذي يحافظ على هذه العلاقة بين الجبل والماء اللذيْن يشكلان قطبي الطبيعة في نظر الصينيين(12)، إنه علوّ الجبل الذي يجابه اتساع الماء في علاقة يحكمها الصراع رغم أن بعضهم يرى وجوب “أن ينطبق الجبل على الماء لكي يظهر العناق الكوني”(13)، لكن هذا النص الذي يكتسب دلالته عبر علاقته بالنص القرآني يعملُ على تغييب صوت الأب (نوح) عليه السلام، فننصت إلى صوت واحد هو صوت الابن، لهذا نحن إزاء رؤية واحدة تعاين الجبل بوصفه مكاناً أليفاً يقي الإنسان غضبة الماء الذي يمثل المكان المفتوح، حيث نطالع في المشهد الثالث:
– “جبلٌ يعصمكم من طغيان الماءْ..
جبلٌ يعصمكم من طغيان الماء”
الصمتُ يلفُّ الأجواءْ
ويزمجرُ رعدٌ
في الأفقِ الغربيِّ
ويُنذر يُنذر بالأنواءْ
قد يصبح فعل الإقصاء استدعاءً لشخصية نوح عليه السلام، والغياب حضوراً، ومن ثَمّ يُضحي الجبل والماء مكانين للموت من وجهة نظر الأب الذي ينشاد بحضوره مكان ثالث يتمثل في السفينة التي تؤدي دور تابوت موسى في الحفاظ على الحياة، وعودة الإنسان إلى الفطرة؛ لذلك يمكن القول: إن السفينة تابوت آخر حميم، يحفظ حياة الأب ومن معه من نزق الماء وخيانة الجبل، في المقابل يعجز الجبل عن تشكيل مأوى، فتنقضي عليه حياة الابن الذي يرمز إلى الرغبة في الإفلات من سلطة الأب، والتحرر من هيمنة المجتمع الذكوري الواحدي، هذا ما يشي به المشهد الأخير من النص:
في أوّلِ مفترقٍ
يوقفهُ
عمرُ الأحزانْ:
– “استظهر بشهادةِ ميلادٍ
من غير زمانٍ ومكانْ
وبطاقةِ تعريفٍ
تثبتُ أنّك معذورٌ
كونكَ إنسانْ
وأخيراً
وقِّعْ تصريحاً مدنيّاً
فحواهُ
دفن الجثمانْ
هكذا، يصمت الصوت الأبرز في النصّ أمام فوضى الخارج المفتوح الذي يمثل سلطة الأب، ويتلاشى طموح التعدد، فتتفتّق رغبة الإنسان في استعادة المكان المغلق، ويبرز الدفن بوصفه فعلاً إيجابياً يقابل فعل الولادة في أول النص.
تبدو العلاقة قوية بين المكان وعناصر السرد(14) متمثّلة في الشخصيات والأحداث، هذا ما تجلّى في النص السابق الذي قرّب المسافة بين الرحم والقبر، فصرنا إزاء مكان شعري، تستدعيه الشخصيات فيسجّل حضوره الرمزي؛ ذلك أنّ المكان هنا غير مصرّح به؛ لكنّ النص يُفيد من الحمولات الدلالية للشخصيات في خلق مكان شعري، يكتسب قيمته من خلال حضور الإنسان فيه، لذا لم يعد القبر مكاناً معادياً؛ بل أضحى يُمثّل مأوى في غياب المأوى، يشارك الرحم ألفته، ويستدعي من خلال علاقته به مكاناً مغلقاً آخر هو التابوت، من هنا يتضح لنا أن المكان المغلق مجسداً في الرحم والتابوت والقبر ينماز بألفته، إنه، كما تجلّى في النص، المكان الحصين الذي يظل الإنسان بين فقدانه واستعادته يواجه فوضى الخارج، وعداوة الأماكن المفتوحة.
4.1.
يُمثّل البيت كون الإنسان الأول، وركنه في هذا العالم(15)، يحمي الإنسان وأحلامه من سطوة الخارج، مجسّداً المأوى الذي ينبثق فيه الشعور بالأمن والحماية، لذا يرى (باشلار) أنّ “كلّ الأمكنة المأهولة حقّاً تحمل جوهر فكرة البيت…، أينما لقي الإنسان مكاناً يحمل أقلّ صفات المأوى، سوف نرى الخيال يبني جدراناً من ظلال رقيقة، مريحاً نفسه بوهم الحماية”(16)، وهذا يعني أنّ الحماية معنى كامن في البيت، وجزء من وظيفته.
يستدعي نص (فتْح) عدّة أمكنة تاريخيّة ودينيّة مغلقة مأهولة، شكّلتْ لساكنيها مأوى يحميهم من ثورة الخارج وعدائيّته؛ لكنّ النص يعمل على سلْب هذه الأمكنة ألفتها، وينزع عنها أهمّ سمة للمأوى وهي الحماية، حيث نقرأ(17):
(فتْح)
دخلتْ دار أبي سفيانْ
كسروا البابْ
دخلتْ كعبة إبراهيم
ما أغنى عنها ما كسبتْ
دخلتْ مسكنها
اهتزّتْ أرض الماء رَبَتْ
أخرجها السيل
أخذوا منّا تلك النملةْ
يحيل النص عبر عنوانه (فتْح) على حدث تاريخي دينيّ هو فتْح مكّة، ومن ثمّ يستدعي مكانين مرتبطين بهذا الحدث هما: دار أبي سفيان، والكعبة؛ إذ يشترك المكانان في سمة الحماية، وإذا كانت الحماية في دار أبي سفيان مرتهنة بلحظتها التاريخيّة، لحظة الفتح، فإنها في الكعبة سمة دائمة، وخصيصة ملازمة لها، تُمثّل جزءاً من هوية المكان، ثمّ يستدعي النص مكاناً ثالثاً مفيداً من دلالة النص الغائب؛ إذ نقرأ قوله: (دخلتْ مسكنها) في ضوء دلالة قوله تعالى: ﴿حتّى إذا أَتَوْا على وادي النَّمْلِ قالتْ نمْلةٌ ادخلوا َمساكنَكم لا يَحْطِمَنَّكم سليمانُ وجنودُهُ وهم لا يشعرون﴾(18)، وبالعودة إلى النص نلحظ كيف عجزتْ هذه الأمكنة المغلقة عن أنْ تُشكّل مأوى لعدم قدرتها على توفير الحماية، ومن ثمّ أضحتْ هذه النملة مطاردة من بيت أبي سفيان إلى كعبة إبراهيم حتى إنّ مسكنها لم يعد مسكناً بعد تجريده من أهمّ سمة للسكن وهي الأمان، فمفردة (سكن) ذات بنية شعورية، تُحيل على ما يشعر به الإنسان تجاه المكان، من هنا كان الإخراج من المسكن سبباً في مصادرة صوت النمْلة التي ترمز إلى صوت الرائي المُحذّر لقومه، الذي يُبّصرهم بعواقب الأمور.
هكذا، يحاور هذا النص النصوص الغائبة، ويعمل على قلب دلالتها، فتحظى الأماكن فيه بوجود نصّس شعري مغاير لوجودها التاريخيّ، فتُضحي دار أبي سفيان، وكعبة إبراهيم مكانين غير آمنين، ويُصبح وادي النمل شاهداً على انقضاء حياة النملة وقومها تحت أقدام سليمان وجنوده بعد أنْ عجزتْ مساكنهم عن أنْ تكون مأوى، لذا وبناء على ما تقدّم يمكن القول إنّ الأماكن المغلقة في هذا النص تكتسب دلالتها من معارضة النص السابق، فبدتْ أماكن عاجزة، تخلّتْ عن حماية ساكنيها، وإذا كان البيت يُمثّل المقاومة، يقف في وجه العاصفة، متحديّاً غضب السماء(19)، فإنّ هذه الأماكن لم تعد بيوتاً لاستسلامها لسلطة الخارج، وانقياد النملة، بوصفها رمزاً، لفعل الإخراج الذي يمهّد لفعل الأخذ، ومن ثمّ يغيب صوت النملة كما غاب صوت ابن نوح في النص السابق.
2_ المكان العالي والمكان المنخفض:
تستدعي ثنائية العالي والمنخفض ثنائيات أخرى؛ إذ إننا “نجد في مجموعة من الحالات أنّ العلو يوازي الاتساع، والانخفاض يوازي الضيق، وأنّ العلو يتطابق أيضاً مع الروحانية، أما الانخفاض فيتطابق مع المادية”(20)، كذلك تنماز العلاقة بين العالي والمنخفض بأنها علاقة بين المطلق والمحدود، والسماوي والأرضي، والأبوي والأمومي، والنهاري والليلي، حيث يصبح المكان في النص الشعري رمزاً مكتنزاً بدلالات متعددة تتجاوز حدود المكان الفعلية.
1.2. أمومة البحر:
تبدو العلاقة بين السماء والبحر علاقة بين مكانين: عالٍ ومنخفض، ورغم اتفاقهما في اللون يظل كلٌّ منهما منفرداً بسمات تباعد بين المكانين، فتتولّد من هذه المسافة بينهما أسئلةُ القصيدة التي تبقى مستكنّةً حتى يقدحها فعل القراءة.
يبرز البحرُ بوصفه “المبتلع الأقدم والأعظم، كما تبين لنا من الاحتواء السمكي، هو اللجة الأنثوية والأمومية التي تشكّلُ…، لثقافات عديدة أنموذج الهبوط والعودة إلى ينابيع السعادة الأولى”(21)، هذا ما نطالعه في نص “درويش”(22):
لماذا خُلقتَ أيا بحرُ أزرقْ
لماذا وُجدتَ أيا بحرُ أزرقْ
لماذا السماءُ تقلّد لونَكْ
وتلك الشموس بأفقكَ تغرقْ
ففي كلِّ صُبحٍ
يولد نجمٌ جديدٌ
ويخجل عند المساءِ ويغرقْ
يهبط العالي ليحلّ في المنخفض في صورة ليلية هابطة تهدفُ إلى ملامسة عمق الكون، وإعادة الاعتبار لما هو مادي، حيث “ينطلق خيال النظام الليلي لاستكشاف الأعماق”(23)، لنكون إزاء رؤيا شعرية، تعيد قراءة العلاقة بين السماء والبحر، لتُقدّم صورة حلمية تحاكي السماء فيها البحر، ومن قبل كتب (كوربيه) في إحدى رسائله عن رغبته في أن يرسم سماء عميقة جداً، تشبه في حركتها وبيوتها وقبابها موجات البحر(24)، وبالعودة إلى الصورتين نقف على هذا التشابه الكامن في البعد الحلمي للصورة التي تجعل السماء انعكاساً للون البحر، “والواقع أنّ لكلّ صورة عظيمة عمقاً حلميّاً بعيد الغور، يُضيف إليه التاريخ الشخصي لوناً خاصّاً”(25).
هكذا، تتجسد أمومة البحر الذي يمارس فعل الاحتواء ليصبح مكاناً يواجه أبوّة السماء وسلطتها، ويسلب الشمس قداستها، إذ “الصعود المنير هو الذي يعطي للشمس قيمتها الإيجابية”(26)، لهذا يمكن القول: إن الشمس تحظى بحضور متماثل مع حضور النجوم في النص، حيث يعجز كل منهما عن مقاومة فعل الابتلاع الذي يمارسه البحر، فتنشأ حركة هابطة تدعو إلى اكتشاف الجوهر الأنثوي لهذا الكون، ذلك أنه إذا كان “الصعود دعوة إلى الخارج، إلى ما وراء الجسد، فإن محور الهبوط هو محور حميمي، هش وطريّ، والعودة الخيالية هي دائماً إدخال حسي، عضوي وباطني”(27).
يُضحي الهبوط فعلاً إيجابياً في النص، يشكل انتقالاً من فضاءٍ إلى آخر، ويوحّد بين مكانين متباعدين بعد أن ينقاد العالي إلى سلطة المنخفض معمّقاً إحساسنا بأمومة الأرض.
2.2. سلطة المكان المنخفض:
يظل نص “درويش” الذي ينبني على سؤال فلسفي (لماذا خلقتَ أيا بحر أزرق) قادراً على الاحتفاظ ببعض أسراره التي لم تنجح الوقفة الأولى في كشفها، ذلك أن التقابل بين أبوّة السماء وأمومة البحر لا يمنع قيام صلة وثيقة بين المكانين العالي والمنخفض، فإذا كانت وظيفة أحدهما تختلف عن وظيفة الآخر، فإن اللون الأزرق يجمع بينهما (لماذا السماء تقلد لونك)، وهذا يعني أننا أمام فضاء أزرق يمثل السطح والعمق معاً، وينماز بموقفه السلبي من الإنسان، حيث نقرأ:
أيؤتى إليَّ برزقي كفافاً
وهذي النوارس في الجوّ تُرزقْ
وحوتكَ فيكَ
يُفَتِّح فاهُ
وحلقي يغصّ بمائكَ يَشرقْ
وأشرب منكَ الماءَ أجاجاً
ويشرب غيري
شراباً معتَّقْ
وتطفو المراكبُ فيكَ
وأغرقْ
تتحدّد العلاقة في هذا النص بين الإنسان والكون المتمثّل في السماء والبحر، حيث تصبح الحياة غير ممكنة في هذين المكانين اللذيْن يولّدان في الإنسان إحساساً بالعجز أمام سلطة المطلق الذي يتجسد في الزرقة المنشادة من المكانين معاً، وتغدو عودة الإنسان إلى العمق غير متاحة إلا بفعل الموت، أما الحياة نفسها فتستدعي مكاناً آخر هو بالضرورة غير أزرق، كما تُنشئ الأسئلة التي انبنى عليها النص حواراً داخليّاً يتمحور حول المكان الذي يلعب دوراً فاعلاً في إنتاج دلالة النص عبر إعادة تشكيل المكان شعرياً.
3. خاتمة:
يستدعي المكان بعض عناصر السرد في النص الشعري، فهو الفضاء الذي تتحرك فيه الشخصيات التي تظل حاضرة، رغم محاولة تغييبها؛ إذ إنها تكمن في النص حتى يشي بها المكان للقارئ، فتخرج عن صمتها عبر أفعال هي أيضاً ترتبط بالمكان الذي أتاح لها أن تتحرر، وبالعودة إلى النصوص السابقة ندرك أنّ شخصيات موسى ونوح وابنه والنملة حضرت من خلال المكان الذي ينشاد من خلال علاقة هذه النصوص بالنص الغائب الذي تُقرأ في ضوئه، من هنا وبناء على ما تقدّم يمكن أن نسجّل النتائج التالية:
_ يتسم المكان في نصوص يوسف إبراهيم بحضور رمزي؛ إذ يُفيد النص من دلالة النصوص الغائبة ليُعيد تشكيل المكان شعرياً وفق رؤيا مغايرة.
_ تتخلّى الأماكن عن واقعيّتها، لتكتسب قيماً شعرية مما يجعلنا نشهد تماثلاً بين أكثر الأماكن عدائيّة، ونتمثّل الرحم والقبر والتابوت على أنها مكان واحد.
_ تعمل بعض نصوص يوسف إبراهيم على قلب دلالة النص الغائب، ـوتُضفي على الأماكن التاريخيّة والدينيّة سمات جديدة مغايرة لما عُرفتْ به.
_ يُسجّل المكان في نصوص يوسف إبراهيم حضوراً لافتاً، فيغدو مكوّناً كليّاً ينطوي على سمات شعرية وأخرى سردية تجعلنا نعاين تقارباً بين الشعر والسرد، وهو ما يؤدّي إلى افتاح النص على عدّة قراءات ممكنة.
نشرت بالعدد (28) من مجلة رؤى
الهوامش:
1- للوقوف على ألفة هذه الأماكن انظر، باشلار، غاستون، جماليات المكان، تر: غالب هلسا، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط6، 2006م.
2- المرجع نفسه، ص:31.
3- إبراهيم، يوسف، درويش: مجموعة شعرية، الناشر: المؤلف نفسه، غريان، ليبيا، ط1، 2001م، ص: 12-16.
4- دوران، جيلبير، الأنثروبولوجيا: رموزها،أساطيرها، أنساقها، تر: مصباح الصمد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط2، 1993م، ص: 214.
5- كيليطو، عبدالفتاح، الأدب و الغرابة: دراسات بنيوية في الأدب العربي، دار الطليعة ، بيروت، ط3، 1997م، ص: 9.
6- انظر، أبوديب، كمال، في الشعرية، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط1، 1987م، ص: 89.
7- دوران، جيلبير، الأنثروبولوجيا، مرجع سابق، ص:215.
8- انظر، المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
9- نجم، خريستو، رمزية القدم والحذاء في الأدب و الفن، الدار العربية للموسوعات، بيروت، ط1، 2008م، ص:45.
10- طه، الآيات: 8 -11.
11- انظر، باشلار، غاستون، جماليات المكان، مرجع سابق، ص:38.
12- انظر، شينغ، فرانسوا، الفراغ و الملء: اللغة التصويرية الصينية، تر: عدنان محمود محمد، صلاح صالح، آفاق ثقافية، الكتاب الشهري، العدد48، نيسان2007م، وزارة الثقافة السورية، دمشق، ص:100.
13- المرجع نفسه، ص: 103.
14- انظر، الطربولي، محمد عويد محمد ساير، المكان في الشعر الأندلسي من عصر المرابطين إلى نهاية الحكم العربي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط1، 2005م، ص: 23.
15- انظر، غاستون، باشلار، جماليات المكان، مرجع سابق، ص:36.
16- المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
17- إبراهيم، يوسف، أسفار القلم المختون: مجموعة شعرية، الناشر: المؤلف نفسه، غريان، ليبيا، ط1، 2004م، ص:8.
18- النمل، الآية:8.
19- انظر، غاستون، باشلار، جماليات المكان، مرجع سابق، ص:66، 67.
20- لوتمان، يوري، مشكلة المكان الفني، تر: سيزا قاسم، مجلة ألف، العدد السادس، ربيع1986م، ص:90.
21- دوران، جيلبيير، الأنثروبولوجيا، مرجع سابق، ص:202.
22- إبراهيم، يوسف، درويش، مرجع سابق، ص: 34-37
23- دوران، جيلبيير، الأنثروبولوجيا، مرجع سابق، ص: 178.
24- باشلار، غاستون، جماليات المكان، مرجع سابق، ص:54.
25- المرجع نفسه، ص:57.
26- دوران، جيلبيير، الأنثروبولوجيا، مرجع سابق، ص: 126.
27- المرجع نفسه، ص: 179.